خديجة الجسري – نسوان فويس
“كدتُ أفقدُ حياتي، بعد 16 سنة من المعاناة …”. بهذه الكلمات تستهل نور أحمد (45 عامًا) من محافظة الضالع حكايتها مع عمل شاق للغاية بدأت فيه منذ عقود.
مع بداية كل صباح تنطلق الآلاف من النساء اليمنيات بعيدًا عن تقارير المنظمات، وعدسات الإعلام لينغمسن في المهمة الأكثر صعوبة، والأشدّ قسوة، والأكبر تأثيرًا وإضرارًا بحياتهن، دَرج المجتمع في هذه المناطق على الاعتماد بشكل كبير على النسوة في رعاية وقطف وحماية شجرة القات؛ التي تعد المصدر الأول للرزق لملايين السكان في اليمن.
تقول نور: “كنت أعمل في حقول القات، وأنتقل من حقل لآخر، أسقي نبتة القات، وأرشها بالمبيدات المتنوعة، أصبتُ بسعالٍ كان يبدو أنه يظهر ويختفي مع تغيرات الطقس”.
في البداية كنت أعتقد أن الحساسية هي السبب، وكنت أذهب للمراكز الصحية المحلية وآخذ بعض المهدئات فيعود السعال من جديد مع شعور بضيق التنفس وأعود لأعمل بالحقول رغم المعاناة، وعندما تضاعفت الأعراض ثبت بتشخيص طبي إصابتي بمرض الربو.
تستكمل نور حديثها عن هذا المرض الذي تسبب به، الاستخدام المفرط للمبيدات الحشرية قائلة: “بدأت أستخدم أجهزة الاستنشاق والأدوية التي تم وصفها لي لعلاج الربو، وكلما لاحظتُ تحسنًا أعود وأعمل في زراعة القات، وأدركتُ أن الأعراض كانت تزداد سوءًا، وعلى مدى التسعة أشهر التالية بدأت تظهر عليّ مضاعفات خطيرة متعلقة بالجهاز التنفسي، أعاني حاليًا من تدهور كبير في صحتي”.
وحدها نور من تحدثت لنا عن هذه المعاناة التي تطوي بصمت حياة المئات من النسوة في حين تصاب أخريات بأمراض حساسية وجلد وسرطان مختلفة؛ ولا تزال المرأة في محافظة الضالع تعيش بين كم هائل من المشكلات؛ إحداها العمل في حقول القات.
كابوس السرطان
رغم صعوبة العمل في حقول القات، إلا أن المرأة في الضالع، في المناطق الوسطى تحديدًا تعمل فيه، مما سبب لها أمراض متعددة، أخطرها وأكثرها شيوعًا مرضي السرطان والربو.
يقول عفيف النبهاني، أحد الأطباء المحليين في المنطقة لمنصة (نسوان فويس) إن سبب السرطان ليس نبتة القات وإنما السموم التي يتم رشها بها حيثُ يرجع الرذاذ إلى العاملة مباشرة، ويدخل إلى الرئتين والمعدة عبر الأنف والفم.
وأكد النبهاني أن الأتربة الملوثة التي تلتصق بشجرة القات تتسبب بشكل مباشر بعدد من الأمراض منها سرطان الرئة.
ويضيف أن الربو لا يقل خطورة عن السرطان، حيث انتشر مؤخرًا بين أوساط النساء بشكل كبير، خاصة العاملات في حقول القات.
وفي حديثه لـ(نسوان فويس) يقول أخصائي الصدر والشعب الهوائية الدكتور حمدي التركي إن انتشار مرض الربو أصبح كارثة تهدد الكثيرين، وإن الإصابة بين أوساط النساء أكثر بثلاثة أضعاف مقارنة بالرجال.
وأشار التركي أن الناس يتجاهلون التحسس الصدري، ولا يعلموا أنه المرحلة الأولى لمرض الربو، وأضاف أن هناك نوعان للربو: ربو يصيب المريض بالوراثة، وربو سببه العوامل الخارجية، أخبثها المبيدات الحشرية التي تؤدي إلى التهابات رئوية قاتلة، وأيضًا الأتربة الدقيقة التي تلتصق بشجرة القات، ومواد كيمائية تكون داخل الأسمدة.
المرأة في حقول القات
تعمل المرأة في محافظة الضالع في مزارع القات بعدة مناطق في مديريتي قعطبة ودمت، وتشهد هذه المديريتين انتشار الربو والسرطان بشكل لافت.
أخذنا هذه الملاحظة لنسأل الدكتور التركي: هل العمل بمزارع القات هو السبب؟، فأجاب: نعم يعتبر القات والعمل به سببًا لعدد من الأمراض أولها الربو وذلك من خلال: المبيدات الحشرية التي يصل رذاذها للرئتين والجيوب الأنفية، والأتربة الموجودة فيه، وأيضًا وجود فطريات، ومواد كيمائية كلها تسبب الربو والالتهابات الصدرية المتنوعة.
لماذا تعمل المرأة في حقول القات؟
تشتهر معظم المناطق الريفية بزراعة القات، ولأن المرأة اليمنية بالذات بالريف تعمل في الزراعة إلى جانب الرجل فهذا دفعها للعمل في شجرة القات، تقول أم ياسين أن زوجها توفى من سنين، وهي أم لسبعة أطفال فقامت بدوره في العمل بحقول القات حتى الآن.
(أم ياسين) تشتكي من مرض الربو، وتقول إنها لا تنام إلا بعد استخدام البخاخ أما بقية العلاجات لم تجدِ نفعًا معها حيثُ وصل المرض لمرحلة متطورة، ومع هذا لازالت تعمل في حقلها رغم الألم.
أمراض خطرة تفتك بالمرأة
في بلدٍ يفتقر لأبسط المقومات الصحية، ينتشر السرطان والربو في محافظة الضالع ويفتك بالمرأة، يقول الدكتور إياد صالح مدير مكتب الصحة في المحافظة (الجنوب) لنسوان فويس إن السرطان والربو منتشران بشكل كبير في المحافظة، ويتم تصدير حالات السرطان لمستشفى الصداقة في عدن بشكل مستمر، بينما حالات الربو تستخدم المهدئات من المراكز الصحية وهذا ما فاقم المرض سوء، وعند الوصول للطبيب المختص تكون المريضة في حالة ميؤوس من شفائها؛ وهذا ما أكّده الدكتور النبهاني.
وفي مقابلة مع مدير مكتب الصحة بمحافظة الضالع (الشمال) عبدالملك الغرباني قال إن المرض منتشر بمديريات (قعطبة، دمت، الحشاء) بشكل كبير جدًا، قائلًا إن إحدى القرى- لم يذكر اسمها- ينتشر فيها السرطان في كل بيت، خاصة النساء.
في حديثها لنسوان فويس أشارت أخصائية علاج الأورام والعلاج بالإشعاع الدكتورة أماني صالح إلى دراسة أجرتها المؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان بعدن كشفت ارتفاع عدد الحالات من عام 2013 إلى 2023م إلى عشرة آلاف حالة أكثرها نساء.
الاكتشاف المتأخر للمرض
عادةً ما يتم تشخيص العديد من حالات السرطان في مرحلة متقدمة، الأمر الذي يقلّل من فرص الشفاء، كما أن غياب المراكز الصحية المتخصصة يضاعف معاناة المرأة الريفية بعدم اكتشاف مرضها مبكرًا.
يقدر الدكتور عفيف النبهاني أن نسبة 95% من الوفيات بمرض السرطان سببه الكشف المتأخر عن المرض.
وفي مقابلة مع والدة المتوفية بسرطان الكبد (أ. ص)، تقول إن ابنتها كانت تعاني من وجع في المعدة وكانت تتناول المهدات العلاجية بشكل يومي؛ حتى وصلت لمرحلة دخلت في غيبوبة تم على أثرها نقلها لأحد المستشفيات، الذين بدورهم وجّهوا بنقلها إلى مركز الأورام في المستشفى الجمهوري بصنعاء، وبعد أيام فارقت الحياة؛ حيثُ قال الطبيب المعالج للمتوفية إن سرطان الكبد كان قد انتشر في كل أعضاء جسدها، وهنا يصعب السيطرة على المرض بأي وسيلة من الوسائل.
من ناحيتها تقول الدكتورة أماني صالح إن (الخجل الاجتماعي) أحد أسباب الاكتشاف المتأخر للمرض، إذ تتحفظ المرأة عن ذكر أي جسم غريب يظهر عليها كالحبوب وغيرها، وهو ما تحدث به لنا زوج المتوفية (ع.ع) الذي قال إن زوجته كانت تعاني بصمت حتى لاحظ تساقط شعرها بكثرة، وعندما سألها أجهشت بالبكاء حتى أغمي عليها، وإذا به يجد ثديها الأيسر قاسيًا جدًا ولونه أزرق، جرى إسعافها لأحد المستشفيات قبل نقلها إلى صنعاء، وعند الكشف كان المرض قد انتشر بكل جسدها لتأخذ من المعاناة أربعة أشهر، وتفارق الحياة.
صعوبة الوصول للعلاج
في بلد يعيش تحت وطأة الحرب، لا يجد السكان قوت يومهم، كما يفتقرون لأبسط المقومات الصحية، خاصة في القرى البعيدة عن المدن.
تقول أم عبدالرحمن لنسوان فويس أنها تعاني منذ عشرة أعوام من مرض الربو، وتلجأ للأعشاب.
تضيف: “إذا وجدت قيمة العلاج، لا أجد تكاليف السيارة التي ستنقلني للمركز الصحي، ولديّ أطفال لم أستطع توفير احتياجاتهم الأساسية، بينما (ف.م)، المصابة بسرطان الحلق تقول: “بسبب عدم وجود المال صعب عليّ الوصول للمستشفى الجمهوري لمواصلة جرع السرطان.
قصص مأساوية يحكيها الأهالي هنا وهناك، والمرأة الضحية الأولى، والعنصر الضعيف الذي يعمل بصمت رغم المعاناة.
إنشاء العيادات المتنقلة ونشر الوعي
تبقى المرأة في الضالع هي الأكثر عرضة لأضرار القات، وهذا الأمر يدعو إلى الالتفات لهذه الظاهرة المتزايدة، والاهتمام بنشر الوعي في أوساط النساء، وشغل أوقات فراغها بما يعود عليها بالنفع، دون العمل في حقول القات.
ولأن المرض قد تفشّى في المجتمع لابد من حلول آنية ومستقبلية، وحسب كلام الدكتورة أماني صالح (لنسوان فويس) فالحل الأمثل للكشف المبكر عن المرض هو إنشاء عيادات متنقلة مدعومة بالأجهزة الحديثة والأطباء في مناطق الضالع خاصة الريفية.
كما تؤكد الدكتورة أماني على أهمية التثقيف الصحي المجتمعي من قبل المتطوعات باستمرار حتى تكرّس الثقافة الصحيحة في عقول الجميع، ويكون هناك جرأة للكشف المبكر عند الإحساس بأي مرض، أو ظهور أي بثور أو جسم غريب في الجسم.
ومن الضروري إجراء دراسات من قبل مكتب الصحة بالمحافظة لمعرفة المناطق الأكثر ضررًا، والعمل على دعمها من قبل السلطات المحلية والمنظمات حسب كلام مدير مكتب الصحة بالضالع إياد صالح.