مروى العريقي – نسوان فويس
تقول كتب التاريخ بأن بداية فن الانشاد كانت مع بداية الأذان، فقد كان لصوت بلال مؤذن رسول الله وقعا تستحسنه الأذن، وهو يجود فيه كل يوم بترتيلٍ عذب، و من هنا جاءت فكرة الأصوات الندية في التغني بالأشعار الإسلامية، ثم تطور الأمر على أيدي المؤذنين في مختلف البلدان الإسلامية ، و أصبح له قوالب متعددة و طرائق شتى..
و من مظاهر تطور الانشاد في عصرنا الحالي تأثره بالفضائيات المرئية و الفيديو كليب، وظهور قنوات متخصصة للإنشاد زاد من انتاج أناشيد محدثة و ساهم في تشكيل فرق إنشادية متحررة، و أصبح الإنشاد قريب الشبه بالغناء المتعارف عليه، بعد أن فتح ذراعيه ليضم أطيافاً مختلفة و متنوعة من القوالب..
تحضرُ المرأةُ اليمنية بشكل لافت في هذا الفن، فمن تمتلك صوتًا جميلًا وتُجيد إطلاق المقامات، تتجه صوب الإنشاد كونه الفن الأكثر التزاماً في مجتمع محافظ كاليمن، فعمل المنشدات أو ما يطلق عليهن شعبيا ( النشادات ) محبباً و مرغوبًا في الجلسات النسائية الفرائحية كحفلات الولاد التي تستمر لعدة أيام أو إحدى حفلات الأعراس التي تقام في المنزل ، أو المناسبات الحزينة أو في مجالس الذكر ( الموالد ) نسلط الضوء في هذا التقرير على الفن الغائب الحاضر من خلال عمل المنشدات..
منذ الصغر
بدأت أمل الانشاد منذ وقت مبكر فالمرة الأولى لها كانت وهي بالصف الثالث الابتدائي، انتقلت بعدها للغناء لكنها لم تستحسنه، فعادت للإنشاد مجدداً، تقول لنسوان فويس : الغناء شعرت بأنه ليس المكان المناسب لي ثم عدت إلى الإنشاد مرة أخرى حيث أجد نفسي وكينونتي ورسالتي تتوافق جدًا مع الإنشاد.
أنهت أمل دراستها الجامعية تخصص إعلام، و لازال الانشاد يستهويها فلا تدخر جهدًا في تعلم كل جديد و تأهيل نفسها تقول: ” أقوم بتأهيل نفسي ذاتياً من خلال سماع الكثير من المنشدين و معرفة أنواع المقامات الصوتية وكيفية تأديتها، و أمارس هذه المهنة حبا بها و كمصدر للرزق في نهاية الأمر.
و عن الاحتياج الذي ترغب فيه تقول أمل: الذي ينقصني وجود مركز تعليمي للمقامات الموسيقية ومختص بالصوت و الأداء، و أتمنى أن ألتحق بمثل هكذا دورات حتى يتسنى لي أتقان المقامات الموسيقية..
بينما اختارت زينب الغرسي الانشاد كونه الأقرب إلى عادات وتقاليد القبيلة التي تنتمي إليها ، تقول لنسوان فويس: ” بدأت الانشاد في العام 2019 اخترته لأنه الأقرب لعادات وتقاليد الأسرة، و أعتقد لو أني خلقت في بيئة أخرى كنت اخترت الغناء..
وجدت زينب التشجيع من أسرتها بدءاً بوالدها قبل وفاته و والدتها و أخوتها: ” أهلي دعموني جداً و لازم أسير وفق انتماء قبيلتي، فنحن من أسرة محافظة و كل شخص يسير وفق قبيلته و ما ينتمي إليه ” تقول زينب..
الصعوبات
تمثلت الصعوبات التي تواجه أمل في عدم ترحيب الوسط الملتزم ( المتدين ) للمرأة المنشدة ، وكذلك عدم وجود مراكز و مدربات نساء في المجال الصوتي و تدريبه، و عدم وجود مهندسات صوت أثناء التسجيل.
كان الخوف يسيطر على زينب إلا أن الاستمرار و التشجيع الذي وجدته عزز فيها ثقتها بنفسها، وحبها لهذا الفن دفعها للبحث عن قصائد جديدة قريبة من الجمهور، فأصبحت هذه الهواية مصدر دخل لها على الرغم من ضعف امكانياتها التقنية ، تسعى زينب إلى شراء جهاز وحدة الخلط ( مكسر صوت ) حديث..
التدين
ارتبط الانشاد بالتدين كون قصائده وكلمات اشعاره منبثقة من الدعاء إلى الله عزو وجل والتوسل إليه والترجي والمدح في النبي، كما يوضح ذلك رئيس جمعية المنشدين اليمنيين..
و بحسب الأستاذ علي الاكوع رئيس جمعية المنشدين اليمنيين فإن الانشاد في اليمن صاحب كل العادات والتقاليد اليمنية، وهو حاضر في جميع مناسباتهم حتى الدينية منها ، كمولد الرسول ، الهجرة النبوية ، ذكرى الاسراء و المعراج ، كذلك الحج ، المناسبات العيدية ، المآتم ، الأفراح ، و الزفاف..
و يذكر الأكوع أن ظهور الانشاد في اليمن ليس له تاريخ محدد، يضيف: بحسب ما ذكرت عدد من التراجم أنه يتجاوز الثمان مئة عام بحسب أقدم القصائد التي انشدها اليمنيون وتغنوا بها..
” تمتلك محافظات اليمن تراث انشادي ثري فالإنشاد في اليمن له أنواع متعددة هناك الصنعاني ، الحضرمي ، التهامي ، التعزي ، الذماري ، و الريمي، و لكل محافظة تراث متميز و له نكهته الخاصة” يقول الأكوع..
عادات يمنية
اهتمام اليمنيون بالإنشاد جعل منه عادة يمنية، تحدث إلينا الشاعر زياد القحم و هو رئيس تحرير مجلة نادي القصة ” إل مقه ” يقول : اهتم اليمنيون و اليمنيات بحضور فقرات الانشاد الديني في مناسباتهم السعيدة أو الحزينة، و كان حضور المنشد أو المنشدة تقليدا لا تخلو منه مناسبة في الغالب ، و إذا لم يحضر منشد محترف أو منشد يعمل أساساً في مهنة الانشاد فإنه بالإمكان أن يقوم أي شخص أخر قادر على تقديم الفقرات الانشادية بإحياء هذه المناسبة..
و يضيف القحم : هذا التقليد موجود في كثير من المدن اليمنية و في الأرياف كذلك، و بطبيعة الحال فإن الألحان التي تؤدى في هذه المناسبات هي ألحان تراثية و قصائد ثابتة ، بمعنى أنهم لا يكتبون أعمالاً جديدة لكل مناسبه من هذه المناسبات ، و يحفظ المنشد أو المنشدة مقاطع من قصائد شهيرة ليقوم بأدائها وفقاً لـنوعية المناسبة..
لكل مناسبة تُقام مجموعة أناشيد خاصة بها ، في مناسبات الفرح تتحدث الاناشيد عن البركة و التهاني و كذلك التي تذكر فضائل الزواج و فضائل تكوين الأسرة ، و في المناسبات الحزينة تكون هناك القصائد التي تتحدث عن الدعاء للميت و لأهل الميت ، و كذلك القصائد التي تؤدى لتزهيد الناس في الدنيا و في التعلق بها ، كما يوضح ذلك القحم..
و يُبّن القحم خصوصية فن الانشاد اليمني باعتماد اناشيده على ألحان ثابتة و بسيطة فيها تكرار لجملة لحنية واحدة و تتشابه في طرق أدائها و تعتمد أيضاً على قصائد مكتوبة باللغة العربية الفصحى ، أو مكتوبة بالشعر الحميني و الشعر الحميني هو أبيات تكتب بلغه وسط بين الفصحى و العامية ، و بالتحديد هي عبارات شبيهة بالفصحى إلا أنها غير معربة أي أنها تعتمد على تسكين آخر الكلمات ، و في حالات نادرة تكون قصائد مكتوبة باللهجة العامية العادية..
و يرجح القحم أن الشعر الحميني هو أبرز ما يمثل الخصوصية اليمنية في هذه الأناشيد باعتبار الأناشيد المكتوبة بالفصحى موجودة في دول عربية مختلفة و الأناشيد المكتوبة باللغة العامية المتداولة اليومية يمكن أن تختلف من مدينة إلى أخرى ، بينما الشعر الحميني في منطقة وسطى ففيه قوة الفصحى وبساطة العامية و هو غير موجود سوى في اليمن..
الشعر الحميني
يشبه الشعر الحميني الموشحات الأندلسية من ناحية الشكل ، ولذلك تسمى قصائد الحميني أحيانا بالموشح اليمني، كما يوضح ذلك القحم : يتميز الشعر الحميني باختلاف شكله الكتابي فهو يكتب بأوزان شعرية مرنة مقارنة بالشعر التقليدي المكون من نظام البيت المكون من شطرين ، بينما يعتمد الحميني على تشكيلات أكبر في حجم البيت و طول البيت، و كذلك في نظام بنائه و معظم قصائد الشعر الحميني مثل معظم ألحانه تنتمي لفترة سابقة ويكون قائل القصيدة معروفاً ، بينما صاحب اللحن غالباً غير معروف بذلك الانساب إلى التراث أي أنه تراث المجتمع كاملاً ، و هذا عائد لاهتمام اليمنيين بتدوين الشعر مُنذ القدم بينما لم تكن النوتة الموسيقية معروفة حتى يتم تدوين الألحان بواسطتها..
غياب الاهتمام
لم تهتم الحكومات اليمنية المتعاقبة بهذا الفن كباقي الفنون فلا توجد بنية تحتية خاصة برعاية المختصين بهذا الفن ، و لم تتبنى أي حكومة حتى اليوم مسألة توثيق هذا الفن ، على الرغم من امتلاك البلاد تراثاً لا تمتلكه غيرها من البلدان ، ومقاطع الأناشيد التي تبث في الإذاعة أو التلفزيون تم تسجيلها بمبادرات فردية من جمعية الانشاد اليمنية ..
في حديثه لنسوان فويس يقول الأكوع : ” نحن لا نمتلك عشرات و لا مئات بل نمتلك آلاف من الألحان الانشادية التراثية اليمنية التي توارثناها عبر السماع من الآباء و الأجداد رحمة الله تغشاهم جميعا ، و نحن في جمعية الانشاد اليمنية و اتحاد العرب للثقافة و الفنون نسعى جاهدين إلى توثيق هذا الفن قدر ما نستطيع “..
و يضيف : ” استطعنا و بجهود ذاتية و بمساهمة بعض المهتمين بالتراث إصدار أول كتاب يوثق لفن الانشاد في اليمن ، و هو عبارة عن مجلد تجاوزت صفحاته 600 صفحة بعنوان روائع النشيد الصنعاني تأليف و جمع و تحقيق على بن محسن الأكوع و يعتبر الأول من نوعه في المكتبة اليمنية ، إلى جانب توثيق و تحقيق عدد من المخطوطات منها ما تم طبعه و منها تحت الطبع حالياً ..