جميلة عبدالله عُمَر – نسوان فويس
في مدينة رداع اليمنية، تجد مئات الفتيات أنفسهن مضطرات للظهور عبر شاشات الهواتف ومواقع التواصل الاجتماعي بأسماء مستعارة.
هذه الظاهرة، التي تدفعها رغبة الفتيات في التعبير وخوفهن من الرقابة المجتمعية، تُبرز صراعاً يومياً بين الحاجة للظهور الرقمي والحفاظ على “الستر” المتوقع منهن اجتماعياً.
تقع مدينة رداع في محافظة البيضاء، جنوب شرق العاصمة صنعاء، وتُعرف بطابعها القبلي المحافظ حيث تُحاط المرأة بسلسلة من التقاليد الصارمة التي تُقيّد حريتها في التعليم والعمل والمشاركة الاجتماعية.
وعلى الرغم من وجود فتيات حاصلات على تعليم جامعي إلا أن كثيرات منهن يُحرمن من إكمال دراستهن أو دخول سوق العمل وتُحاصر خيارات العمل للنساء غالبًا في مجالات محدودة كأي تخصصي طبي أو التدريس بما يتناسب مع الصورة المقبولة اجتماعيًا لدور المرأة.
في هذا السياق يصبح الإنترنت ومواقع التواصل المنفذ الوحيد لبعض الفتيات للتعبير عن أنفسهن ولكن تحت أسماء مستعارة.
دروع رقمية في وجه المجتمع
تُروي “ح. ن.”، طالبة جامعية من رداع، تجربتها قائلةً إنها بدأت باستخدام اسمها الأول فقط، لكنها سرعان ما واجهت سيلاً من التهديدات والتجريح، مما دفعها للجوء إلى الاسم المستعار.
تقول لمنصة نسوان فويس “اخترت الاسم المستعار كدرع أتحصّن به. أمتلك هاتفين اشتريتهما من مالي الخاص وأهلي يعرفون بوجودهما، لكن لا أتصور أن يعرف الرجال من عائلتي بحساباتي.”
وتُضيف: “أواجه سبّاً وقذفاً من حسابات وهمية باستمرار، وكأن وجود الفتاة في الإنترنت جريمة! بعض فئات المجتمع عندنا تنظر إلى السوشيال ميديا كأنها بيت دعارة بسبب بعض الاستخدامات الخاطئة، وندفع نحن الثمن.”
من جانبها، تقول “ه. خ.”، طالبة جامعية أخرى من رداع وتستخدم اسم “همس الخيال” المستعار، إن هذا الاسم منحها “حرية كبيرة للتعبير، وخلق لها مساحة آمنة للتفكير والكتابة.”
وتُعلّق: “الاسم المستعار لا يخفي حقيقتي بل يحميها مؤقتاً. لا أخاف من هويتي بل من بيئة لا ترحم. بعض أفراد عائلتي يعرفون بحساباتي والبعض الآخر لا يعلم.
أحاول الحفاظ على ثقة من يعرف. نشرتُ مرة منشوراً بسيطاً عن واقع مدينتنا، فردّ عليّ البعض باتهامات جارحة. كل ما نحتاجه هو بيئة تثق بنا حتى نثق بأنفسنا.”
قيود التعبير في الفضاء الافتراضي
في رداع، حيث يغلب الطابع القبلي، لا تزال حرية الفتاة تُقاس بمدى خفوت صوتها واختفائها عن الفضاء العام. ورغم أن مواقع التواصل الاجتماعي تحولت بالنسبة لكثير من الفتيات إلى ملجأ ونافذة يُطلِلْنَ بها على العالم الخارجي، إلا أن ذلك يأتي بشرط أساسي: ألا تُعرف هويتهن الحقيقية.
ورغم أن عدداً من الأسر باتت تتقبل وجود الفتاة على الإنترنت بشروط، إلا أن الرقابة الداخلية والخوف من “كلام الناس” ما يزالان يشكلان حاجزاً كبيراً أمام التقبل التام. إنها معركة يومية تخوضها الفتيات بين الحاجة للتعبير عن ذواتهن والمحافظة على “الستر” و”السمعة”.
تحديات نفسية واجتماعية
يؤكد الدكتور محمد الحميري، أخصائي الأمراض النفسية والعصبية، على أن الأمر لا يقتصر على مدينة رداع فقط، بل تنتشر في معظم محافظات اليمن بنسب متفاوتة، وقد تتركز بشكل خاص في رداع بسبب القيود القبلية والاجتماعية الصارمة المفروضة على المرأة.
ويُوضح الحميري أن الفتاة تضطر لاستخدام اسم وهمي لأن “ظهور اسمها الحقيقي قد يُعتبر في بعض المجتمعات عاراً يُخلّ بالشرف وإهانةً كبيرة لأسرتها.”
ويضيف: “تخشى الفتاة من عواقب الانكشاف والتي قد تكون كارثية وتدفع ثمنها نفسياً واجتماعياً طوال عمرها؛ لذا تصبح مواقع التواصل الاجتماعي هي الملجأ الوحيد والمتنفس الآمن لها. لكنها في الوقت ذاته تُبقيها في حالة انفصال عن الواقع، لأن عالمها الافتراضي هو الوحيد الذي تستطيع فيه التعبير عن ذاتها وبناء صداقات تعوّضها عن الوحدة التي تعيشها.”
حرية مؤجلة بانتظار الاعتراف
الاسم المستعار ليس مجرد اسم؛ إنه درع تحتمي به الفتاة من مجتمع لا يمنحها المساحة الكافية لتُعبّر عن رأيها، أو تُشارك موهبتها، أو تُناقش فكرة دون أن تتعرض للتجريح أو الشك أو وصم سمعتها. فالكثير من الفتيات يمتلكن أفكاراً ناضجة وخواطر جميلة تستحق أن تُسمع، لكنهن يُخفينها خلف اسم مستعار وصورة رمزية لوردة أو قمر أو ما شابه. وكما تُعبر إحدى الفتيات: “نريد أن نكتب أسماءنا ونفتخر بها، لا أن نخبئها كأنها خطيئة.”
في ظل هذا الواقع، تختار فتيات رداع التخفي خلف أسماء مستعارة، كغيرهن من فتيات كثيرات في محافظات يمنية عدة. لكن هذا التخفي ليس ضعفاً، بل هو صرخة مؤجلة بانتظار بيئة مجتمعية تعترف بصوتهن ولا تُسجّله ضدهن. فهل يأتي اليوم الذي تكتب فيه كل فتاة من رداع اسمها الحقيقي، دون أن يُحسب عليها ذلك خطيئة؟