كيف يروي الإعلام وجع النساء؟ من سؤال الأخلاق إلى اختبار الممارسة في الصحافة والإعلام اليمني

شارك المقال

خاص – نسوان فويس

 في سياقات النزاع، لا تُروى معاناة النساء وقضاياهن بوصفها شهادات فردية فقط، بل تُعاد صياغتها داخل فضاء عام تحكمه علاقات مصالح، ومنطق سوق إعلامي، واستقطابات سياسية.

وهنا -تحديدا- لا يعود السؤال متعلقًا بالكيفية، أوما إذا كان يجب نشر قصص النساء، بل كيف تُنشر، وبأي شروط أخلاقية، ولصالح من تعمل هذه السرديات في النهاية.

ضمن هذا الإطار، جاء وبينار «كيف نروي وجع النساء دون استهلاكه؟» كمحاولة لفك الاشتباك بين النية الصحفية والنتيجة الواقعية، وبين الخطاب المتعاطف والأثر الفعلي على النساء، في سياق يمني بات فيه الخطأ المهني غير المسؤول قادرًا على إحداث أذى مضاعف فوق الأذى الحاصل واقعيا.

علوان: يمثل التبني أعلى درجات التناول الأخلاقي، لأنه لا يتعامل مع القصة بوصفها مادة للنشر، بل كقضية تتطلب التزامًا طويل الأمد. فالتبني، كما توضّح، يقوم على الشراكة مع النساء، والاستمرارية في التغطية، والسعي إلى إحداث تغيير حقيقي في الوعي والسياسات، لا الاكتفاء بلحظة تعاطف عابرة

من الاستهلاك إلى التبني 

تنطلق الأكاديمية الدكتورة بلقيس علوان، رئيس قسم الإذاعة والتلفزيون بكلية الإعلام جامعة صنعاء سابقا، من فرضية أساسية مفادها أن السرد الإعلامي ليس فعل نقل محايد، بل موقف أخلاقي ومعرفي، تتحدد قيمته بمدى وعي الصحفي بالسلطة التي يمتلكها لسرد القصة والتحكم فيها.

ووفق هذا التصور، يمكن فهم أنماط تناول قضايا النساء في الإعلام اليمني ضمن ثلاث مراتب متدرجة، لا تتعلق بالشكل فقط، بل بالغاية والأثر.

في المرتبة الأولى، يقع الاستهلاك، حيث تُختزل قصص النساء في صورة الألم الخالص، وهذا يأخذ مداه في إعادة إنتاج المعاناة بوصفها محتوى عاطفيًا سريع التداول. هنا، تُنتزع القصة من سياقها، وتُفصل عن أسبابها وبُناها، لتعمل فقط كأداة إثارة لجلب الجماهيرية للصحافي أو الوسيلة.

تؤكد علوان أن هذا النمط، وإن بدا غير مقصود في كثير من الأحيان، إلا أنه يكرّس تمثيل النساء كضحايا دائمات، ويعيد إنتاج علاقات القوة ذاتها التي يفترض بالإعلام مساءلتها.

المرتبة الثانية هي التوظيف، وخلف هذا النمط هناك فاعل، وموجهة يعمل على نقل القصة من الاستهلاك العاطفي إلى الاستخدام المقصود.

في هذا المستوى، تُسحب معاناة النساء إلى خطاب سياسي أو دعائي، وتُنتقى القصص بما يخدم سردية معينة غالبًا في سياق الصراع، الذي تتعدد فيه الأطراف التي تدير رحى الحرب فعليا وعلى وسائل الإعلام.

ورغم أن هذا التناول قد يُقدَّم بوصفه “انحيازًا للمرأة”، إلا أنه يبقى محكومًا بمنطق النفعية لا العدالة.

وتميز علوان النمط الثالث المتمثلة بالتبني، بوصفه نمطا يمثل أعلى درجات التناول الأخلاقي، لأنه لا يتعامل مع القصة بوصفها مادة للنشر، بل كقضية تتطلب التزامًا طويل الأمد. فالتبني، كما توضّح، يقوم على الشراكة مع النساء، والاستمرارية في التغطية، والسعي إلى إحداث تغيير حقيقي في الوعي والسياسات، لا الاكتفاء بلحظة تعاطف عابرة.

ومن هنا، تنتقل المسؤولية من سؤال “النية” إلى سؤال “الأثر”، إذ إن غياب القصد في الاستهلاك لا يعفي الصحفي من تبعات ما ينشره.

اللهبي: القاعدة الأساسية لأخلاقيات النشر هي تقديم مصلحة المرأة صاحبة القصة على أي اعتبار مهني أو تنافسي، ومن هذا المنطلق، يصبح الابتعاد عن توصيف (الضحية) جزءًا من إعادة توزيع السلطة داخل النص، بحيث لا تُجرَّد المرأة من مكامن تفردها أو تُختزل في موقع الضعف

من الموقف الأخلاقي إلى الممارسة

إذا كان التمييز بين الاستهلاك والتبني يضع الإطار النظري للسرد الأخلاقي، فإن الأستاذة بلقيس اللهبي، مستشارة النوع الاجتماعي والمجتمع المدني بمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية، تنقل النقاش إلى مستوى أكثر تعقيدًا، متمثلا باتخاذ القرار التحريري في لحظة النشر.

إذ تشير اللهبي إلى أنه في سياق الأزمات، لا يكون السؤال فقط (هل القصة مهمة؟)، بل (هل نشرها آمن وعادل لبطل القصة أو المتضرر؟).

تؤكد اللهبي في هذا الصدد أن القاعدة الأساسية لأخلاقيات النشر هي تقديم مصلحة المرأة صاحبة القصة على أي اعتبار مهني أو تنافسي، ومن هذا المنطلق، يصبح الابتعاد عن توصيف (الضحية) جزءًا من إعادة توزيع السلطة داخل النص، بحيث لا تُجرَّد المرأة من مكامن تفردها أو تُختزل في موقع الضعف.

وتنوه إلى أن النشر يمر بمستويين متمايزين: الأول مرتبط بضرورات الخبر، حيث تُقيَّد التفاصيل بحجم الحاجة الإخبارية. أما الثاني، فيتعلق بتناول القصة بعمق، وهنا تتكثف الاعتبارات القانونية والمهنية والأخلاقية.

وبناءً على المستوى القانوني، يصبح الامتناع عن نشر أي معلومات أو صور قد تعرّض المرأة للخطر التزامًا لا خيارًا بحسب قولها.

وعلى المستوى المهني، تحذّر اللهبي من إدخال ذاتية الصحفية أو تحميل القصة دلالات تخدم أجندات أخرى غير تلك التي تتضمن القصة أو القضية مجردة.

أما على المستوى التحريري، فإن الإفراط في العاطفة، وإن بدا إنسانيًا، قد يحرف القصة عن مسارها الأساسي، ويحوّلها من أداة مساءلة إلى خطاب ديماغوجي.

اللهبي ذكرت وجود إشكالية عادة ما يتم التحايل عليها أو تجاهلها، ممثلة بقضية الموافقة المستنيرة، التي لا تعني موافقة شكلية على النشر، بل فهمًا كاملًا من صاحبة القصة للمخاطر المحتملة قبل الفوائد المتوقعة، وهو شرط يصعب تحقيقه في بيئات هشّة مثل اليمن.

يرصد الزرقة خمسة انماط إنتاجية رئيسية لتناول قضايا النساء في الصحافة و الإعلام اليمني؛ متمثلة في: الحضور الموسمي المرتبط بالمناسبات، التناول الإنساني المنزوع من المساءلة، التسييس الانتقائي للقضايا، ضغط السوشيال ميديا نحو الصدمة على حساب السلامة، وأخيرًا تغييب النساء كخبيرات فاعلات وحصرهن في أدوار نمطية

 

حين تتحول النية الحسنة إلى خطر

يأخذ الكاتب الصحفي أحمد الزرقة، هذا النقاش إلى مستواه التطبيقي، محذرًا من أن أي خطأ في السرد داخل السياق اليمني لا يبقى أثره رمزيًا، بل قد يتحول إلى تهديد مباشر لسلامة النساء. فـ «الخوف في اليمن ليس شعورًا عابرًا، بل نظام حياة»، ما يجعل من أي تفسير صحفي غير مسؤول عاملًا مضاعفًا للأذى.

ويرصد الزرقة خمسة أنماط رئيسية لتناول قضايا النساء في الإعلام اليمني، متمثلة في: الحضور الموسمي المرتبط بالمناسبات، والتناول الإنساني المنزوع المساءلة، والتسييس الانتقائي للقضايا، وضغط السوشيال ميديا نحو الصدمة على حساب السلامة، وأخيرًا تغييب النساء كخبيرات فاعلات وحصرهن في أدوار نمطية.

هذه الأنماط، وإن بدت مختلفة في الشكل، إلا أنها تشترك في نتيجة واحدة: إقصاء النساء عن موقع الفاعل، وإبقاؤهن داخل سرديات جاهزة لا تعكس واقعهن ولا تسهم في تغيير شروطه.

ويؤكد الزرقة أن الإعلام، حين يعيد إنتاج هذه الأنماط، لا يكتفي بعكس الواقع، بل يشارك في تكريسه.

انطلاقًا من هذا التشخيص، خلص المشاركون إلى أن دعم قضايا النساء إعلاميًا لا يتحقق عبر النوايا الحسنة وحدها، بل عبر سياسات واضحة داخل المؤسسات الإعلامية، تشمل تعزيز وجود النساء في مواقع صنع القرار، وإنشاء وحدات متخصصة بقضايا النساء، واعتماد بروتوكولات تحريرية تراعي تقييم المخاطر قبل النشر.

إلى جانب التأكيد على أهمية وجود آليات تحقق دقيقة، وتفعيل “فيتو أخلاقي” داخل غرف الأخبار في حال تعارضت مصلحة الوسيلة مع مصلحة صاحبة القصة(المتضررة)، وصياغة ميثاق شرف إعلامي يحدد معايير التناول الإعلامي لقضايا النساء.

 

مقالات اخرى