مختلون عقليًا في شوارع اليمن قنابل موقوتة تهدد النساء والأطفال

شارك المقال

 منيرة أحمد الطيار – نسوان فويس

في شوارع صنعاء ومدن يمنية أخرى، يصعب أن تخطو دون أن تواجه مختلًا عقليًا بملابس رثة وعينين زائغتين، اتخذ من الأرصفة مأوى له بعد أن تخلى عنه أهله أو مؤسسات الرعاية. هؤلاء باتوا قنابل موقوتة تهدد الجميع، لكن النساء والأطفال هم الأكثر عرضة للخطر.

استبيان أجرته معدة التحقيق على عينة أولية ومتنوعة من 70 شخصًا من النساء والرجال أظهر أن 88% من المشاركين يشاهدون مختلين عقليًا في شوارعهم بشكل يومي، فيما قال 80% إنهم يشعرون بالخوف عند رؤيتهم، ما يعكس حجم الرعب المتنامي بين السكان.

مخاطر مفاجئة وتداعيات جسدية ونفسية

في أحد أحياء الجراف بصنعاء، كان أسامة ذو التسعة أعوام يلعب برفقة أقرانه بكل أمان قبل أن يتعرض لضرب مبرح من مختل عقلي يقطن نهاية الشارع. تقول والدته بقهر: “تألمت جداً لما أصاب ابني، لكن لم نجد من ينصفه، فالمجنون رُفع عنه القلم ولا توجد جهة تضبط المجانين المنتشرين في الشوارع.”

هذه القصة ليست استثناءً؛ فقد كشف نفس الاستبيان الأولي أن 52% من المشاركين تعرضوا لمواقف مخيفة أو مخاطر مباشرة بسبب المختلين، بما في ذلك حالات اعتداء جسدي ومحاولات تحرش وملاحقة، مما يعكس اتساع دائرة الخطر على الأطفال والنساء في الشوارع.

في عام 2021، نجت يسرى الغولي، معيدة بكلية الإعلام بجامعة صنعاء، من موت محقق حينما ألقى عليها مختل حجراً ضخماً، ما تسبب في إصابتها بجرح في رأسها استدعى سبع غرز.

تروي يسرى: “كنت أقطع الشارع متوجهة للباص، فجأة سمعت صراخ الناس، وحين التفت وجدت مجنوناً يطاردني بحجر ضخم. أُصبت برأسي وأسعفني الناس لعيادة قريبة. للأسف، عرفت أن في نفس الشارع مجنوناً آخر قبل يومين تعرض لفتاة رشقها بعلبة فول مليئة بالأسمنت.”

وتضيف: “لاحظت أن هؤلاء المختلين يعتدون فقط على النساء، وهذا أمر لافت وغريب ومثير للقلق.”

يتسق هذا مع نتائج الاستبيان التي أظهرت أن 70% من المشاركين يرون في وجود المختلين بالشوارع خطرًا جسديًا مباشرًا، بينما قال 60% إنه يمثل تهديدًا نفسيًا يثير القلق لدى النساء والأطفال بشكل خاص.

إحصائيات مغيبة وثقافة العيب 

على الرغم من خطورة الظاهرة وتفاقمها، لا توجد إحصاءات حديثة ودقيقة عن أعداد المختلين عقليًا في اليمن. دراسة قديمة قدرت عددهم بنحو خمسمئة ألف شخص، نصفهم تقريباً يعيشون في الشوارع بلا مأوى أو علاج. هذا الغياب للبيانات الحديثة يُعيق وضع خطط فعالة للتعامل مع الأزمة.

يؤكد الدكتور محمود البكاري، أستاذ علم الاجتماع، أن هناك خلطاً شائعاً بين الأمراض العقلية المستعصية والأمراض النفسية الناتجة عن ضغوط الحياة، والتي يمكن أن تتدهور إلى اختلال عقلي حقيقي في حال الإهمال.

ويقول: “الخوف من وصمة العار الاجتماعية يدفع الأسر لإخفاء المرضى أو التخلي عن علاجهم، وهذا يجعل الحالات تتدهور وتتحول إلى جنون فعلي.” نتائج الاستبيان أيدت ذلك، حيث ألقى المشاركون باللوم على الدولة في المقام الأول، تلتها الأسر والمجتمع كأطراف مسؤولة عن ترك هؤلاء المرضى دون مأوى أو علاج.

من جانبه، يوضح الدكتور صخر الشدادي، أخصائي نفسي، أن وصول المرضى النفسيين إلى الشوارع سببه تفاقم حالتهم وإهمالهم في بدايات المرض، كما أن وصمة العار المجتمعية تجعل النساء والأطفال يخافون من المرض النفسي ذاته، مما يعيق طلب المساعدة في الوقت المناسب.

وتفسر شفيقة صبر، أخصائية نفسية، أن الأسباب التي تؤدي إلى وصول المرضى النفسيين للشارع متعددة، منها عدم قدرة الأهل على تحمل تكاليف المستشفيات النفسية، وغياب العلاج المناسب، وعدم وجود دعم اجتماعي.

وتضيف: “مريض الفصام، بسبب الأوهام والهلاوس، ينعزل عن المجتمع ويصل إلى التشرد بالشارع. كما أن الوصمة الاجتماعية والخوف من نظرة المجتمع للعلاج النفسي يؤدي إلى تأخر طلب المساعدة وتدهور المرض.”

تروي أم عبد الرقيب، من صنعاء، قصة ابنها البالغ 18 عاماً والذي يعاني من مرض نفسي (فصام): “في البداية عرضته على طبيب نفسي ووصف له أدوية بمبلغ 40 ألف ريال شهرياً. حاولنا شراء العلاج لمدة 3 أشهر، إلا أنه بعدها تدهور وضعنا المالي ولم نعد قادرين على شراء العلاج، وتدهورت حالة ابني بشكل كبير.”

توضح شفيقة أن وجود المرضى النفسيين في الشوارع يسبب خوفًا وقلقاً شديدين لدى المارة، خاصة النساء والأطفال. وأحيانًا يتعرض المرضى أنفسهم للعنف الجسدي وحتى الاغتصاب، إضافة إلى انتشار الأمراض بينهم بسبب التشرد.

وتشير إلى أن مراكز الصحة النفسية القليلة في اليمن تواجه تحديات كبيرة منها نقص التمويل، وقلة الكوادر المتخصصة، وتدهور الوضع الاقتصادي العام.

الحرب والفقر عوامل تفاقم الأزمة

تؤكد إيمان لطف البريهي، أخصائية نفسية، أن ضعف النظام الصحي النفسي ونقص المراكز المتخصصة وعدم كفاية الكوادر المؤهلة كلها أسباب أساسية لوصول المرضى النفسيين إلى الشارع.

وتشير إلى أن الفقر والبطالة والحرب زادت من الضغوط النفسية الهائلة على الأفراد، بينما دفعت الأسر للتخلي عن مرضاها بسبب العجز المادي أو وصمة العار.

وتضيف أن النزاعات المستمرة في اليمن أدت إلى ارتفاع اضطرابات مثل الاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية للصحة النفسية.

فجوة بين النصوص القانونية والتطبيق العملي

يوضح النقيب إبراهيم الصياغي، ضابط شرطة، أن القانون اليمني لا يفرض عقوبة جزائية على المصابين باضطرابات نفسية خطيرة، معتبراً أن “القلم مرفوع عنهم” وفقاً للمادة (33) من قانون الجرائم والعقوبات رقم 12 لسنة 1994 التي تنص على ألا يسأل جزائيًا من كان وقت ارتكاب الفعل عاجزًا عن إدراك طبيعته ونتائجه بسبب الجنون. لكنه أشار إلى أن الشرطة أحيانًا تلزم الأسر بتحمل مسؤولية مرضاهم عبر توقيع تعهدات.

ومع ذلك، يكشف التطبيق العملي لهذه النصوص فجوة كبيرة، إذ يترك المرضى لمصيرهم في الشوارع أو يُزج بهم في السجون أحيانًا، مما يفاقم المخاطر على المجتمع ككل، ويزيد من معاناتهم.

مبادرات فردية ومراكز منهكة

في صنعاء، يستقبل مركز الحلالي للأمراض النفسية عشرات المرضى، لكن موظفيه يعملون دون رواتب، فيما يعيش النزلاء على مساعدات خيرية متقطعة لا تفي باحتياجاتهم الأساسية.

يقول الناشط الحقوقي أنور الحيمي: “رغم وجود مئات المنظمات التي تنفق الملايين، لم يصل أي دعم جدي لهؤلاء المساكين. المجانين رُفع عنهم القلم، لكن نحن سنحاسب على إهمالنا لهم.”

ووفق تقرير للصندوق الأمم المتحدة للسكان هناك نحو سبعة ملايين شخص في اليمن بحاجة إلى الدعم والمعالجة النفسية خلال عام 2023ومع ذلك، لا يستطيع سوى 120,000 شخص فقط الوصول إلى هذه الخدمات.

ويؤكد التقرير على الشح الكبير في توفر الرعاية الصحية النفسية في اليمن، حيث يوجد طبيب نفسي واحد فقط لكل 700,000 شخص، وهي نسبة أقل بكثير من المعيار العالمي الذي يتطلب توفر 33.9 طبيب نفسي لكل 100,000 شخص.

بين غياب الدولة وتفكك الأسرة، وبين وصمة العار وتحديات الحرب، يظل المختلون العقليون في اليمن ضحايا ومصدر خطر في الوقت ذاته. إنقاذهم ليس خيارًا إنسانيًا فحسب، بل ضرورة ملحة لحماية المجتمع بأسره من انفجار هذه القنابل الموقوتة، ويتطلب تضافر جهود كافة الأطراف.

مقالات اخرى