الفن التشكيلي.. مرآة ناطقة تعكس قضايا المرأة اليمنية

شارك المقال

علياء محمد – نسوان فويس

في بلد أنهكته الحروب، وفي ظل واقع اقتصادي واجتماعي وسياسي مضطرب، تعيش المرأة اليمنية وضعاً معقداً. فهي تعاني من تهميش ممنهج في مختلف نواحي الحياة، في خضم القيود الاجتماعية والأعراف المتجذرة، والنظرة الدونية التي كرسها المجتمع، برزت وسيلة فنية تُمكن المرأة اليمنية من البوح بمعاناتها، التعبير عن قضاياها، والمطالبة بحقوقها.

يُعد الفن التشكيلي إحدى الوسائل التي استُخدمت كمقاومة ناعمة يواجه بها الفنانون والفنانات قسوة الواقع، ويوصلون من خلاله رسائل صامتة تخاطب المعنيين وتُؤثر عليهم. لقد برز الفن التشكيلي في الآونة الأخيرة كوثيقة بصرية تمنح المرأة اليمنية صوتاً مسموعاً لا يمكن تجاهله.

ترى الفنانة التشكيلية اليمنية سحر اللوذعي أن “الفن التشكيلي يمتلك قدرة فريدة على تسليط الضوء على قضايا المرأة بطرق لا تقتصر على السرد المباشر، بل تتجاوز ذلك إلى التعبير عن عمق التجربة الإنسانية للمرأة بكل أبعادها النفسية والاجتماعية.” 

وتضيف: “الأعمال التشكيلية تمتلك قدرة استثنائية على تجاوز الحواجز اللغوية والثقافية، لتصل مباشرة إلى عمق النفس البشرية.”

قدمت سحر اللوذعي أعمالاً فنية تُحاكي حال النساء في اليمن، وأظهرت في أعمالها التشكيلية صمود وقوة المرأة اليمنية. من أبرزها لوحة لوجه امرأة مسنة ترتدي الزي التقليدي لمحافظة صنعاء، يظهر في وجهها شقا السنين الغائرة وصمودها في وجه الظروف كمحاكاة لحال الأمهات في اليمن. 

تؤكد سحر أنها تسعى من خلال أعمالها الفنية التشكيلية إلى توثيق قصص النساء اللاتي غالباً ما تكون حقوقهن مهدورة أو منسية، سواء بسبب العنف أو الإقصاء أو التحديات اليومية التي تمر بها، خاصة في المجتمعات اليمنية.

تركز سحر اللوذعي على البعد النفسي للمرأة، وتتناول قضايا غالباً ما تكون مهمشة أو مسكوتاً عنها، مثل العنف، وزواج القاصرات، والصراعات الداخلية التي تُقيّد طاقة المرأة داخل بيتها ومجتمعها. 

تُشير اللوذعي إلى أن الفن هنا يتحول إلى وسيط تأملي يجسد التجربة بدلاً من شرحها، ويخاطب وجدان المتلقي بصدق، ويدفعه إلى إعادة النظر، مهما كانت خلفيته الثقافية أو انتماؤه.

أداة لرفع الوعي وتغيير الصورة النمطية

لقد عكس الفن التشكيلي الواقع المعاش للمرأة اليمنية وتناول في لوحاته ومنحوتاته قضايا تواجهها المرأة كالعنف الأسري، والزواج المبكر، والتمييز القائم على النوع الاجتماعي. 

يرى الخبراء في مجال الفن والثقافة أن الأعمال التشكيلية تمتلك قدرة على التأثير البصري والنفسي، الأمر الذي جعل منها أداة فعالة في رفع الوعي المجتمعي بأهمية حصول المرأة على حقوقها.

تؤكد الفنانة التشكيلية إيميليا الحميري أن للفن التشكيلي دوراً كبيراً في رفع الوعي بحقوق المرأة، بل إنه “يوازي ويتجاوز أحياناً الخطب الرسمية والوعظ الديني والاجتماعي.” 

وتضيف: “يناقش الفن التشكيلي وضع المرأة من كل الجوانب، ويرسم صورة كاملة عما تعانيه المرأة اليمنية من القمع والتشدد، والتي يتم قولبتها في دور واحد يخدم الرجل، وفي الوقت ذاته يعطي تصوراً لحجم الظلم وكيفية تجاوزه.”

وتُشير الحميري إلى أن الفن التشكيلي “يكسر حاجز الصمت ويترك أثراً بين الناس بدون أن يُثير حواجز الدفاع التي تُطلق تلقائياً عندما يُذكر حقوق المرأة تحت ظل العادات والتقاليد المجحفة.” 

وتصف في حديثها لمنصة نسوان فويس الفن التشكيلي بـ”القوة الناعمة التي تستطيع الوصول إلى مناطق لا يستطيع الوصول إليها أي خطاب مباشر كونها الطريقة الألطف والأذكى للإقناع.”

برز الفن التشكيلي كوسيلة لإعادة صورة المرأة اليمنية وكسر الصورة النمطية، وأعاد رسم ملامح جديدة. يؤكد النقاد أن الفن التشكيلي وما يحتويه من تحولات بصرية أسهم في كسر الصورة النمطية التي تربت عليها الأجيال. 

تقول اللوذعي: “الفن لا يقدم إجابات جاهزة، بل يفتح مساحات للتأمل وإعادة النظر. ويحفز المتلقي على إعادة النظر في الصور النمطية من خلال رؤية إنسانية أعمق، تمهيداً لتحول مجتمعي أكثر وعياً وتفهماً.”

وحول القضايا التي يجب معالجتها باستخدام الفن التشكيلي، تؤكد اللوذعي أن هناك العديد من المواضيع التي يجب أن يوجه الفن التشكيلي لمعالجتها، خاصة “المواضيع التي تعيش في الصمت، وتواجهها المرأة يومياً من دون أن تجد لها صدى في النقاش العام.” 

وتضيف: “يشمل ذلك الأبعاد النفسية العميقة مثل الصراعات الداخلية، مشاعر القهر والخوف، والاغتراب الذاتي الناتج عن القيود الاجتماعية والثقافية. كما تبرز قضايا العنف الأسري والمجتمعي، الإهمال العاطفي، والوصمة المرتبطة بصحة المرأة النفسية والجسدية. إضافة إلى ذلك ضغوط الدور المزدوج بين الأسرة والعمل، والعوائق التي تُكبّل حرية التعبير عن المشاعر في ظل تقاليد مجتمعية صارمة.” 

وترى أن الفن في هذا السياق، “يتحول إلى منصة حرة وآمنة للتعبير عن هذه الحالات الإنسانية التي يصعب قولها علناً.”

 مساحات للتعبير والتغيير

تُعد المعارض الفنية التشكيلية مساحة مفتوحة للتعبير الرمزي والمباشر لعدد كبير من القضايا، وشهدت السنوات الأخيرة إقامة العديد من المعارض الفنية التي تركز على قضايا المرأة وهمومها. تكمن قوة هذه المعارض ودورها بأنها تجذب الجمهور، الأمر الذي يُسهم في نشر ثقافة جديدة ترى المرأة بعيون أكثر إنصافاً.

الفنانة التشكيلية هيفاء سبيع هي إحدى الفنانات اليمنيات اللواتي شاركن في معرض مصور لجامعة بيتسبرغ الأمريكية بلوحات تُعبر عن واقع المرأة اليمنية في ظل الحرب والرغبة في السلام.

حصلت هيفاء سبيع على جائزة “سيدز أوورد” للعام 2022 من مؤسسة الأمير كلاوس الهولندية عن أعمالها الفنية وحملاتها للرسم على الجدران التي تُعنى بقضايا النساء والأطفال أثناء الحرب في اليمن.

تقول هيفاء سبيع: “منذ بدايتي في حملات الرسم في شوارع صنعاء، كانت النساء جزءاً أساسياً من أعمالي، ليس فقط كمواضيع، بل كمتلقيات ومشاركات.” رسمت هيفاء ضحايا الحرب من النساء، وعن الأمهات اللواتي ينتظرن أبناءهن المخفيين قسراً، وعن المعنفات بصمت داخل بيوتهن، وعن معاناة الأطفال الذين دفعوا ثمن الحرب والعنف، سواء كمجندين أو كضحايا للألغام أو سوء المعاملة.

وتُفيد في حديثها أن رسمها لم يكن “لمجرد التوثيق، بل بسبب شعورها أن كل جدارية هي بمثابة شهادة، ووقوف بصري إلى جانب من لا يُسمع صوتها.” 

وتضيف: “استوحيت أعمالي الفنية من قصص حقيقية سمعتها من نساء التقيتهن في الشارع، أو من صديقاتي، أو حتى من والدتي وأخواتي. هذه القصص ألهمتني كثيراً. وكنت أرى كيف تُحمَّل المرأة في اليمن أعباءً أكبر من قدرتها، دون أن يكون لها حتى حق الاعتراض.” 

وتُشير إلى أنه حين كن يرسمن في الشوارع، كانت النساء تمرّ وتشاهد ما ترسمنه بتفاعل كبير، الأمر الذي جعل البعض يشاركنهن قصصاً شخصية.

تصف تلك اللحظات بـ”المؤلمة، التي منحتها القوة لإكمال مسيرتها في مجال الفن التشكيلي، نظراً لأن الفن في مثل هذه السياقات ليس رفاهية، بل ضرورة إنسانية.”

وترى سبيع أن “الفن التشكيلي أداة مقاومة، ووسيلة لإيصال الصوت عندما يُفرض علينا الصمت في بيئة مثل اليمن، حيث تُكمم الأفواه وتُحجب القصص.”

 وتؤكد أن “المرأة اليمنية لا تعاني فقط من الظلم المجتمعي، بل أيضاً من تبعات الحرب، من الفقد، من العنف، من الصمت القسري.” 

وتضيف: “كان الفن وسيلتي للحديث عن معاناة النساء التي تُهمَّش، ومن خلال رسوماتي على الجدران وفي المعارض، حاولت أن أُظهر هذا الألم بشكل بصري، لا ليُحزن الناس فقط، بل ليوقظ فيهم الإحساس بالمسؤولية.”

مُوضحة أن معارض الفن توفر مساحة آمنة للبوح، ولتبادل التجارب حين تُعرض أعمال تتناول واقع المرأة، فإنها تكسر النمطية وتمنح الزائر فرصة أن يرى المرأة كإنسان يحمل تجربة كاملة، وليس فقط كرمز تقليدي. 

وأشارت إلى أن “بعض المعارض التي شاركت فيها، سواء داخل اليمن أو خارجه، فتحت لها المجال لمشاركة قصص النساء من اليمن مع جمهور عالمي، وهذا خلق حوارات صادقة وعميقة، وبين كيف أن المعاناة قد تختلف في شكلها، لكنها تتشابه في جوهرها.”

من جانب آخر، ترى إيميليا الحميري أن المعارض الفنية التشكيلية هي “البؤرة أو البذرة التي يبدأ منها التغيير الحقيقي، كونها المكان الوحيد الذي يلتقي فيه الأكاديمي بالعامي، والمسؤول بالمثقف، للنظر إلى نفس اللوحة من عدة زوايا مختلفة.” 

وتضيف: “وفي عصر الصورة لا نحتاج إلى الكثير من الشرح لأن الصور أصبحت لغة عالمية، واللوحة الجيدة توصل الفكرة أسرع من أي مقال أو خطاب.” 

وتؤكد أن “المعارض تُحاكي الروح، وتُحرك دواخل الأشخاص بغض النظر عن خلفياتهم الفنية. وهذا بالضبط ما سعت لأجله في معرضي “حاملات الشريم والذي لمست فيه النجاح، فكل من شاهد اللوحات استشعر الألم والمعاناة التي أحكي عنها في أعمالي بدون أن أشرح.”

استطاعت إيميليا الحميري في معرضها، الذي حمل عنوان “حاملات الشريم”، أن توصل فكرة جيدة عن المرأة اليمنية التي تكد وتكافح من أجل بيتها وأولادها بدون تنظير واتهام. 

وتقول: “استوحيت لوحات ‘حاملات الشريم’ من قصص نساء واقعية، ومواقف حقيقية ومؤلمة من الزوجة التي فقدت معيلها وأصبحت فجأة مسؤولة عن الأسرة إلى المرأة التي تزوجت وهي طفلة ولم تكمل تعليمها.” 

وتضيف: “الفن التشكيلي مساحتي الحرة التي استطعت من خلالها معالجة الكثير من قصص النساء بدون شروحات ونصوص، وإنما صورة ولون حملت كل الحكاية.” 

لافتة إلى أننا “في بلد أنهكته الحروب، أصبحنا بحاجة إلى الخروج من جو الضروريات الحتمية المادية إلى مكان الاعتناء بالروح المتمثل بالفن، كونه المكان الآمن والذي من شأنه أن يُحسّن الذوق والإحساس بالمسؤولية المرمية على عاتقنا دون أوامر ووعظ مباشر.”

جسر الأمل في زمن الحرب

وبينما تتجسد معاناة المرأة اليمنية في لوحات سحر اللوذعي، وصرخة التوثيق في جداريات هيفاء سبيع، ورؤية التغيير في معارض إيميليا الحميري، يتضح لنا جلياً أن الفن التشكيلي ليس مجرد ريشة وألوان. إنه صوت عميق للمرأة اليمنية التي ترفض الصمت، ومقاومة ناعمة تتجاوز ألم الحرب والقيود المجتمعية. 

فمن خلال هذه الأعمال الفنية، لا تُعرض قضايا العنف والتهميش فحسب، بل تُبنى جسور من الوعي، وتُكسر صور نمطية راسخة، وتُحرك دواخل المجتمع نحو فهم أعمق وتقدير أكبر لدور المرأة.

 

مقالات اخرى