اكتئاب ما بعد الولادة.. إهمال يولّد الكثير من المعاناة

شارك المقال

جهينة عبد المنعم – نسوان فويس 


“كنت أبكي بشدة، كرهت زيارة النساء، والوجوه الغريبة ونصائحهن، لقد أصبت بالاكتئاب من كثرة فتاوى التربية والرضاعة والمقارنات بين الأطفال”..
تتحدث أماني عبد الله، ٣٦ عامًا وهي من محافظة حضرموت، عن اضطرارها للجلوس مع النساء بسبب عادات المجتمع أثناء فترة النفاس، رغم حاجتها للراحة والنوم والتغذية الجيدة، واستيعاب المسئولية الجديدة، والتغيرات التي طرأت على حياتها وجسدها ومشاعرها.
تقول أماني لمنصة نسوان فويس: “لم يُقدّر الذين حولي مشاعر الاكتئاب، ووصفوها بالدراما والحساسية عدا أختي وزوجي، احتجت لأمي بجانبي رحمها الله لتساعدني..”.
اكتئاب ما بعد الولادة هو شكلٌ آخر من أشكال الكآبة النفسية، وعادة ما يحدث بين أسبوعين إلى ثمانية أسابيع بعد الولادة، ولكنه قد يحدث خلال ما يصل إلى سنة بعد ولادة الطفل حسب تقرير لمنظمة اليونيسف.
حِمل يسرق فرحة قدوم طفل
تؤكد الأخصائية في مركز الإرشاد الأسري في محافظة صنعاء جيهان دلال، أن من أعراض اكتئاب ما بعد الولادة قلة النوم، الحزن الشديد، البكاء المتواصل، التغذية غير الجيدة، وشعور المرأة بعدم قدرتها على الاهتمام بطفلها.
وتُطمئن دلال النساء المصابات باكتئاب ما بعد الولادة بأنه يمكن علاجه بالأدوية إذا اشتدت الأعراض، أو بجلسات العلاج النفسي.

قلة الوعي
يواجه اليمن حاليًا أزمة إنسانية معقدة خلّفت تحديات اقتصادية، ومحدودية الوصول إلى خدمات الرعاية الصحية حسب تقرير للجنة الدولية ولهذه الظروف تأثير كبير على خدمات الصحة النفسية؛ حيث تفتقر اليمن إلى الرعاية المتخصصة، والمهنيين المدربين، وصولًا إلى تفاقم إهمال النساء المصابات باكتئاب ما بعد الولادة.
تصاب من 10% إلى 15% من الأمهات حول العالم باكتئاب ما بعد الولادة، حسب منظمة الصحة العالمية، وترتفع النسبة إلى 20% في الدول النامية.

يساهم نقص الوعي في اليمن، والموارد المحدودة، والعوامل الثقافية في عدم الإبلاغ عن حالات اكتئاب ما بعد الولادة كما لا يزال أمرًا موصومًا ومتجاهلًا، وتشير جيهان إلى انتشار الحالة لدى الأمهات اليمنيات فيما تكمن المشكلة أن البيئة المحيطة بالأم المصابة بالاكتئاب تركّز اهتمامها للعادات الاجتماعية في هذه المناسبة أكثر، وترجّح عائلة الأم غالبًا أن هذه الأعراض هي بسبب الدم الذي نزفته، وبمجرد توقفه سيزول القلق والارتباك.

تشير طبيبة النساء والولادة سحر الصباحي أن اكتئاب ما بعد الولادة غالبًا ما يصاحب البكريات أو القاصرات، ومن أسبابه إذا كانت تبعات الولادة صعبة للأم كأن يموت الجنين في رحم والدته، أو وفاته بعد الولادة؛ كما لتسمم الحمل وارتفاع الضغط والسكري والخضوع لإجراء عملية ونقل الدم للأم أثناء الولادة أسباب ترجح إصابتها باكتئاب ما بعد الولادة.

“لم يكن اكتئاب ما بعد الولادة تجربة بسيطة أو عادية أبدًا، لم يفهم وضعي أحد.. بكاء مستمر، وانهيار نفسي لمدة ٦ أشهر”، هكذا وصفت حسناء الحميري ٣٢ عامًا -صنعاء تجربتها.

حاولت جاهدة تخطي المرحلة، والعودة للعمل، وليس لأحد الفضل في تعافيها سوى العمل حسب قولها، وبغصة تضيف: “لم يخفف عني أحد أو يحتويني بل على العكس كان الجميع من حولي يضغط عليّ حول رضاعة الطفل ورعايته والتعب لأجله دون تأفف، دون أن يسألوني بما أشعر.. كنت وحيدة، ودعوت الله كثيرًا حتى انتهت إجازتي وعدت للعمل”.
حاولنا استطلاع آراء بعض الأمهات اللاتي مررن بالتجربة عبر منشور على صفحة فيسبوك، تفاعلت معه أكثر من 100 أم، قلن إنهن عانين من اكتئاب ما بعد الولادة، وتنوع تعبيرهن عن هذه التجربة بين “عالجت نفسي بنفسي”، “نحن في مجتمع لا يؤمن بالصحة النفسية”، “لا أستطيع وصف شعوري”، “أسوأ أيام حياتي”، “كابوس”، وكثير من الأمهات تجنبن الحديث لما لها من ذكريات قاسية.
الانفوجرافيك التالي يوضح نتائج الاستطلاع:


أما حول تعامل البيئة المحيطة معهن وتصرفها حيال الوضع قالت بعض الأمهات أن البيئة المحيطة بهن اعتبرن الحالة “مجرد دلع”، وأخريات قلن إنهن تلقين اهتمامًا ورعاية من قبل الأسرة والزوج والبعض من الصديقات، والبعض الآخر اعتمدن على أنفسهن في تجاوز المرحلة، بينما فضل البعض اللجوء للفيتامينات والتغذية الجيدة، واستشارة الأطباء.

الدعم المبكر
الوصمة والأعراف الثقافية في المجتمع اليمني لا تشجع المناقشات المفتوحة حول الصحة العقلية والنفسية، وقد تمنع النساء من طلب المساعدة والدعم.

وفي ذلك تنصح جيهان بالقول: “أيًا كان جانب الاضطراب سواء فسيولوجي أو نفسي يجب على الأم عدم الخوف، والاهتمام بتغذيتها، وعلى الأسرة والزوج خاصة احتواءها، وتلبية حاجتها النفسية فقد يغنيها ذلك عن الذهاب لأي مختص أو معالج نفسي” موضحة أن هناك بعض من الأمهات اللواتي يدركن أهمية العلاج النفسي في هذه المرحلة يقمن بزيارة المركز للمعالجة النفسية بعد إصابتهن باكتئاب ما بعد الولادة .
“كانت أسوأ مرحلة مررت بها”، تقول نورا النويهي ٢٨ عامًا -تعز: “شعرت بضيق شديد، وكرهت ابنتي، طلبت مرارًا من أمي أن تأخذها لمجرد سماع صوتها.. كأنني كنت في خرم إبرة، أسرتي وزوجي وصديقاتي خففوا عني كثيرًا، واستخدمت بعض المهدئات باستشارة الطبيبة وكان ذلك نافعًا.

يشير مقال نُشر على موقع يونيسف “إن الأم قد تشعر بالعزلة في هذه الفترة وقد تنتابها أفكار سلبية لكن كلما بكّرت الأم بالتحدث مع أحد أسرتها، أو طبيب عن هذه المشاعر كلما تمكنَت من الحصول على مساعدة مبكرة”.
أضافت الصباحي بضرورة تغيير بعض الأدوية بعد الولادة مثل أدوية الضغط للوقاية من الإصابة بتسمم الحمل الذي قد يُدخل الأم باكتئاب ما بعد الولادة.

تواجه النساء اليمنيات اللاتي يعانين من اكتئاب ما بعد الولادة تحديات كبيرة في سياق يشكله الصراع والموارد المحدودة والأعراف الثقافية.

ويتطلب الأمر معالجة إهمال هؤلاء النساء باتباع نهج متعدد الأوجه يتضمن تحسين البنية التحتية للرعاية الصحية، وزيادة الوعي، وتقليل الوصمة، وتمكين المرأة، ومن خلال إعطاء الأولوية للصحة العقلية ورفاهية المرأة اليمنية، يمكن للمجتمع أن يساهم في تعافيها وقدرتها على الصمود بشكل عام.

مقالات اخرى