أنوار بازهير – نسوان فويس
منبرٌ، وخطبة، وكلماتٌ رنانة، ودفعٌ بالتي هي أحسن كفيلة بأن تغير فكر وتزرع أفكارًا جديدة، وأن تقلب سياسات دول وتُنشىء فيها أنظمةً أخرى؛ كونها واحدة من أعظم وسائل التأثير، والتغيير بأسلوب الإقناع الديني، فإن المساجد -بلا أي شك- أسست على التقوى لتكون جنة اللّٰه الي تجمع المسلمين في أرضه، والتي من مثل منابرها انطلق هدي الله ورسوله، وأُقيمت الخُطب، وأُعلنت التشريعات، وأُسّست قوانين الدولة الإسلامية، وحُرّم فيها ما حرم، وأُبيح ما أبيح؛ حتى أصبحت منذ ذلك العهد إلى الآن ملاذ التائهين والمكلومين، ونقطة إنطلاق الدعوات، والمنبر الذي تصدح منه أصوات معتليه من دعاة الصلاح والدين الآخذين على عاتقهم هدي نبيهم، وهَمّ صلاح مجتمعاتهم الذي يثقل كاهلهم.
وإن التحدث باسم الدين، والدفاع عن فطريته، وأسسه السليمة لرسالةٌ عظيمة، وأمانة ثقيلة أبت السموات والأرض أن تحملها من قبل، ولكن إن من بعض مدّعي الصلاح من يزعزع قواعد ارتكاز هذه الأمانة، ويستغل مكانته الدينية والمجتمعية بعبثية؛ ليتخذها منبرًا يبث منها سمومه، وأفكاره الملطخة بوحل القضايا المعاصرة التي يستخدمها -بطريقة أو بأخرى- كمعول يهدم به المجتمع، ويعيق به بنيان تقدمه وصلاحه، فأي شر هو عندما تقع بين مطرقة أيدلوجية التديّن الخاطىء، وسندان المجتمع.
إن الإيمان بتأثير فن الخطابة الدينية، وتوجيهها لما فيه الفائدة، والانتفاع بها في أداء مقاصد الدين هو الدافع الأول الذي يجعلنا بأن نُلفت النظر إلى هذه القضية الحساسة من جميع جوانبها إيجابية كانت أم سلبية دون المساس بالدين، حيث أكّد أحد المشايخ بأن بعض الخطباء يفقد مكانته كونه في الأصل غير مؤهل للخطابة الدينية لافتًا النظر إلى الاستغلال السيء للمنابر، والعبث بالعواطف الدينية لدى المستمعين البسطاء، وتصديقهم الأعمى لهم بحجة أنهم أهل الصلاح والدين، ومنهم من يستثمر أفكاره المسمومة بزرعها في عقليات عامة الناس، ورميهم في صراعات داخلية كأفراد، وخارجية كجزء من المجتمع. فإنّ من صور استغلال بعض مدعي الصلاح لمكانتهم الدينية والمجتمعية بين الناس بأن يُسيّس المساجد، ويستخدم الدين لأغراض سياسية، أو يذكر بعض الظلمة، ويثني عليهم، ويحشد الدعوات لهم في خطبه. ومنهم من يستخدمها أيضًا لأهدافه الشخصية، فيبث نار الفتنة، ويؤجج رأي المجتمع العام، ويُحرّض أفراده في بعض القضايا، ويضعها تحت مظلة الدين، أو بأن يحشدها لهجوماته نحو شخصيات معينة في المجتمع لتتضرر هي بدون أي وجه حق من هذا الاستغلال، وعبثية الاستخدام، والتلاعب بالأفكار والعواطف.
“إن النساء اليوم أصبحن شرًا مستطيرا” هكذا تناولت أحد الخطب موضوعها، وتلاها ماتلاها من تهويلٍ على الضلع الأعوج، وتباكي على ما أصبح عليه حال الأمة الإسلامية في ظل شرهن، وكأنهن كامرأة العزيز التي راودت يوسف عن نفسه، أو حفيدات مصدر الخطيئة التي رأها بعض معتنقي الأديان الأخرى في حواء كونهم يرونها المتسبب الأول في خروج آدم من الجنة، ولكن إنّ “يا معشر المسلمين استوصوا بالنساء خيرًا، ورفقًا بالقوارير” تظل الوصية النبوية التي تأتي كتذكيرٍ لكل من تسوّل له نفسه بالتجاوز، والتطاول عليهن، وطبطبةٍ نبويّة على كل ماتواجهه المرأة في مجتمعاتنا، ولاعجب فعلًا أن يسمي العرب النساء بالحريم؛ فالحريم في اللغة العربية هو كل شيءٍ مقدس، ومحرم انتهاكه، أوتعديه قولًا أو فعلًا، فالنساء أمك -إذا ما أردت- وأختك وابنتك، ولا ينتظرن إنصافًا معاصرًا أبدًا؛ فالقرآن الكريم، والشريعة الإسلامية أنصفا المرأة منذ أكثر من 14 قرنًا، وبيّنا للعالمين مكانتها المقدسة، وشرّعا ما لها وما عليها.
إننا من هذا المنبر لا نعادي الدين أو الدعاة، ولا نحدد لهم دائرة ضيقة ليعملوا فيها، ولا ندعو بتكميم أفواههم، أو سلب حرياتهم من المنابر، وإننا أيضًا لا نُشجع على التفسخ والاستهتار بالقيم الدينية؛ ولكننا لم نعد نعلم من هو الشر المستطير، فخطورة استغلال المنابر ليست بخافية على أحد اليوم، ووجب الوقوف وقفة صدق للتصدي لها، والتأكد من إعداد خطباء مؤمنين بأهمية الرسالة التي يؤدونها في المسجد، والمنبر بشكل خاص من دون أي غلوٍ أو تطرف؛ لإثراء المحتوى الديني لدى عامة المسلمين، وحل القضايا التي تؤرقهم، والتطرق إلى المشاكل التي يعانون منها والتي تضر المجتمع، وتعيق بناءه وتقدمه. فكفاكم عبثًا وعلّموا الناس الخير، وكونوا دعاة لهم بفعلكم، والزموا الصدق والورع.