أمل وحيش – نسوان فويس
ثمانية أعوام مضت على الحرب في اليمن التي راح ضحيتها الكثير، وخلفت العديد من الأزمات الاقتصادية والإنسانية التي عملت على شل حركة الناس واستنزاف قدرتهم على التعامل مع الوضع المنهك الذي أوصل البلاد إلى حافة الانهيار اقتصاديًا، سياسيًا، وإنسانيًا.
هذه الحرب لم تكتفِ بكل ذلك بل أحرقت الكثير من قلوب الأهالي بما فيهم الأمهات والأخوات والزوجات على أحبائهن وأقاربهن الذين يقبعون خلف سجون طرفي النزاع كأسرى حرب أو معتقلي رأي منذ بداية الصراع في مارس 2015، ومن هؤلاء الأمهات من فارقت الحياة قبل أن تكحل عينيها برؤية قطعة من كبدها، ومنهن من ضعف نظرها من كثرة البكاء على غياب ابنها ومنهن من قاتلت وصبرت ودعت ليلًا ونهارًا أن تعِش حتى تحتضن فلذة كبدها قبل أن يتوفاها الأجل.
نساء كُثر رُملن وفارقن رفيق الرحلة وبين ليلة وضحاها أصبحن وحيدات لا سند لهن ولا معيل لأبنائهن، وأخريات اضطررن للخروج إلى سوق العمل متحملات أعباء إضافية نتيجة لاختفاء السند لهن سواء كان الأب أو الأخ أو الزوج، ومنهن من ماتزال أبصارهن شاخصة إلى البعيد القريب عسى أن يعود لهن حبيب كان أو قريب من السجون لتقر أعينهن برؤيته بعد غياب أدمى القلوب، وليعود الأمان والاستقرار للعائلة التي فقدت السعادة منذ اعتقاله.
تظل المرأة هي الطرف الأكثر تضرراً من تبعات هذه الحرب التي أزهقت الأرواح، وحبست الحريات، وأوصلت اليمنيين إلى حافة المجاعة، فالمرأة بمثابة الحائط الذي تستند عليه الأسرة في الغالب، وبعد فقدانها للمعيل سواء بالموت أو الحبس فإن ذلك يزيد الحمل عليها، فتضطر إلى البحث عن مصدر دخل تعيل به أبنائها أو إخوانها أو والديها إن كان لها أخ معيل توفي أو اعتقل، ومما يزيد من وجع المرأة هو أن يكون معيلها وسندها موجود على قيد الحياة ولكنه محروم من الحرية يعيش بين جدران أربعة بينما تنتظره الأم والأخت والزوجة بفارغ الصبر عل وجع السنوات يبرأ.
مئات المعتقلين القابعين في سجون طرفي النزاع في اليمن منذ بداية الحرب في العام 2015، منهم من خرج في عمليات صفقات تبادل ومنهم من لا يزال ينتظر أن يُدرج اسمه ضمن قائمة المُطالب بالإفراج عنهم من قبل الطرف الذي ينتمي إليه والمئات من النساء مازلن يحلمن في صحوهن ومنامهن أن يعود أسراهن لأحضان ذويهم وأن يلتم الشمل من جديد بعد فراق سنين.
الصفقة الأخيرة
عملت اللجنة الدولية للصليب الأحمر في اليمن جاهدة على تسهيل الإفراج عن المحتجزين من الطرفين في منتصف أبريل هذا العام 2023 حيث تم الإفراج عما يقارب 973 محتجزًا لدى طرفي الصراع بحسب اللجنة في صفقة تبادل بين حكومة صنعاء وحكومة عدن وكان من ضمن المفرج عنهم أربعة صحافيين محتجزين في سجون الحوثيين كان قد حكم عليهم بالإعدام، وتم نقل الجميع بإشراف الصليب الأحمر إلى مناطق مختلفة في اليمن والسعودية وتسهيل عودتهم لأحضان أهاليهم بعد سنوات من الحجز.
صفقة تبادل الأسرى الأخيرة كان لها وقعها وتأثيرها على الناس حيث أحدثت فرحة عارمة كونها لحظة عظيمة سيطرت عليها الإنسانية قبل كل شيء، فقد كان مشهد الأسرى وهم يعودون لأهاليهم ويحتضنون أحبائهم مشهدًا مؤثرًا أبكى ملايين اليمنيين الذين يُجمعون على أن هذه الحرب يجب أن تنتهي ويحل محلها الاتفاق على آلية السلام والخروج باليمن لبر الأمان.
فرحة أم بعد انكسار
ضمن المفرج عنهم في صفقة تبادل الأسرى الأخيرة التي كانت في منتصف أبريل المنصرم المحتجز (عبدالإله علي سيلان) وهو أحد الشباب الذين تم اختطافهم في العام 2015 من منطقة حدة في صنعاء.
أمضى (عبدالإله) ثمان سنوات في السجن، ولم يكن وحده هو من يعاني الأمرين، فقد كانت والدته تعاني ضعف ما يعانيه باكية ليلًا ونهارًا ترى في كل من يمر أمامها ابنها (عبدالإله) وعن معاناة غيابه عنها تقول أميرة حسين والدة الأسير المفرج عنه (عبدالإله سيلان) لمنصة نسوان فويس: ” أظلمت الدنيا في عيني وسكن الظلام قلبي لأن عبدالإله بالنسبة لي قطعه من روحي”.
والدة (عبدالإله) كانت تقوم بزيارته في الشهر مرتين وأحيانًا مرة في الشهر ومرات يُمنع عنهُ الزيارة، ومن أصعب اللحظات التي مرت عليها هي الأيام الأولى من اعتقاله حيث كان من غير المسموح لهم بزيارته أو معرفة شيء عنه: ” مثلي مثل أي أم بُعد ابنها عنها أكبر عذاب وكمان بالفترة الأولى من اعتقاله كان غير مسموح لنا بزيارته وكنت لا أستطيع النوم من قلقي وخوفي عليه واجلس أفكر في أكله وشربه ونومه ولا أدري شيء عنه كل هذا جعل حياتي في ذلك الوقت عذاب وجحيم”.
لحظة انتظار
ولأن لحظة الحرية لا تقدر بثمن ولحظات الانتظار يمتد معها الألم، كانت أميرة حسين بكل لهفة تنتظر خبرًا يبشرها بقرب خروج ابنها، وفي كل صفقة تبادل للأسرى أو السماع بخروج سجين من ظلمته إلى النور كانت والدة (عبد الإله) تنتظر بلهفة الأم أن تسمع اسم ابنها ضمن المفرج عنهم: “كنت دايما انتظر الفرج من الله وحده ..صحيح أنّى كنت انتظر صفقات التبادل لعل اسمه يظهر بينهم لكني كنت احمد الله في كل ما يختاره فهو وحده بيده أمور الخلق جميعًا.
عودة الحياة لقلب الأم
لا أحد يستطيع أن يصف شعور الأم وهي ترى ابنها يعود إلى حضنها بعد سنوات غياب فكيف به وهو كان سجينًا بين أربعة جدران كل لحظة كان يقضيها في السجن كأنها عامًا كاملًا.
عن فرحتها وشعورها لحظة سماعها بالإفراج عن ابنها بعد 8 سنوات من الاعتقال تقول والدة (عبد الإله) : “شعوري لا يوصف ولا يحكى من الفرح والسعادة، وكنت أدعو الله تعالى بأن يرجع الفرح إلى قلبي ويطمئن قلبي برؤية ولدي عبد الإله بصحة وعافية”.
استقبال أم
فرحتها بسماع خبر عودته مع ضمن المفرج عنهم في صفقة تبادل أسرى قبل العيد بأيام قلائل كان لها وقعها الخاص على قلبها كأم محرومة من وجود ابنها معها لسنوات طويلة، فكان استقبالها له لا يصفه أي حديث: ” لا أستطيع أن أوصف لكم فرحتي وشوقي ولهفة قلبي له عندما رأيت عبدالإله ومن سألني في ذلك اليوم عن شعوري أقول لهم: “اليوم عيد، عبدالإله عيدي” فالحمد والشكر لله تعالى على هذه النعمة”.
تتمنى والدة الأسير المفرج عنه (عبدالإله سيلان) في ختام حديثها لمنصة (نسوان فويس) أن يعود كل محتجز لحض أمه:
“أرجو من الله تعالى بأن يقر أعينهن ويطمئن قلوبهن برؤية أولادهن وهم بصحة وعافية بدون تأخير ويفرج عن جميع اليمنيين”.
تختم والدة (سيلان) حديثها لمنصة (نسوان فويس) داعية بقلب أم بأن يلتم الشمل ويتم الإفراج عن جميع المعتقلين: ” الله يصلح الحال ويجمع كلمة اليمنيين ويؤلف بين قلوبهم وكلنا أبناء وطن واحد ودين واحد وكلنا يمنيين وأتمنى أن يخرج كل المعتقلين من كل السجون”.
عودة الأخ السند
(عبد الله يحيى الوظاف) أحد الأسرى العائدين إلى صنعاء ضمن صفقة التبادل الأخيرة التي حدثت في منتصف أبريل حيث قضى خمس سنوات في المعتقل كأسير حرب، حاله كحال أي أسير أُحتجزت حريته لسنوات وترك وراءه أهلًا له يبكون فراقه وينتظرون عودته بفارغ الصبر.
وفاء شقيقة الأسير (عبدالله الوظاف) تتحدث لمنصة (نسوان فويس) عن سوء غياب من تحب وفي مكان لا يتمناه أحد حيث تقول: “الحياة عندما تفقد عزيز عند خالقه تبقى السعادة فيها ناقصه ولكن المواساة فيها أنه بين يدي رحيم، ولكن تأتي المعاناة الحقيقية والعذاب اليومي خصوصًا في المناسبات الاجتماعية التي عادة ما نجتمع فيها ونحن لانعرف عن وضعه وحاله”، وتضيف (وفاء): “أسئلة تدور في أنفسنا جميعا وكل واحد منا يحاول إخفاءها عن الآخر لكي لا يزيد وجعه أكثر.. عشنا فتره كبيرة لا نتمناها للعدو قبل الصديق”.
وتكمل حديثها قائلة: “تستطيعي أن تقولي كلمات الدنيا لن تصف حجم مشاعر الحزن والألم التي مرت بها عائلتي في غيابه”
خبر الإفراج
الخبر الذي ينتظره كل من يعاني فراق عزيز عليه هو خبر عودته سالمًا وما إن سمعت (وفاء) وإخوتها بأن اسم شقيقها أُدرج بين أسماء الأسرى المفرج عنهم في صفقة التبادل بين طرفي النزاع استبشرت خيرًا، لكن مشاعر الخوف تملكتها بأن يتم التأجيل أو المماطلة.
“أول ما وصلنا خبر إن اسمه أدرج بين الأسرى المفرج عنهم اختلطت مشاعر الفرحة بالخوف.. الفرحة لأنه وبعد خمس سنوات سيفرج عنه والخوف من أن تحدثت عراقيل ويتم تأجيل الصفقة فكنا على مستوى الأسرة نحاول أن نتجاهل الحديث في موضوعه، كل منا ينصح الآخر أن لا يفرح كثيرًا وتركنا الأمر لله في دعائنا وصلاتنا نرجوه أن لا يخيب الأمل المتبقي بعد كل سنوات الفراق الصعب”.
لحظة حبس الأنفاس
شقيقي الأسير عبدالله الوظاف
تصف لنا وفاء لحظة انتظارهم لوصول شقيقها ضمن الصفقة وحبس الأنفاس لساعات طويلة منتظرين رؤيته في صالة المطار.
“استعد إخوتي من بعد سحور ذلك اليوم وانطلقوا إلى مطار صنعاء الدولي الساعة السادسة صباحًا صارت الساعات تمر مر الجبال على صدورنا جميعًا نترقب السماء، فحطت الطائرة الأولى تحمل النصف لم يكن عبدالله من ضمنهم لتزداد الساعات ثقل وألم حتى شارفت الساعة الثانية ظهرًا لتحط الطائرة الموعودة” وتكمل وفاء حديثها بلهفة وفرحة أخت يعود سندها إليها لتصف لنا لحظة وصول أخيها: “في وقتها لن تصف لكم الكلمات شعورنا.. اختلطت الدموع بنبضات قلوبنا جميعا ليأتي العناق الذي تجدي نفسك فيه وأذكر أن أخي الكبير قال كلمة لمراسل قناه أن عمره خمسين سنه لم يعش سعادة فيها مثل سعادة ذلك اليوم..”
وعن أمنية (وفاء) لكل من له أسير في السجون وأمنيتها من أجل السلام: “لا أخفيك أننا عشنا غصة في قلوبنا على الأُسر التي مازالت تنتظر عودة أبنائها وإليهم أتوجه بخالص الدعاء أن يجمعكم الله بهم قريبًا وثقوا أن فرج الله آت مهما طال الانتظار، وأمنيتي أن تنتهي الحرب ونعيش جميعًا بسلام في وطن يجمعنا جميعًا مهما اختلفنا”.
قصة عودة أسيرين من جانبي طرفي الصراع كانت أنموذج لكمّ الفرح والسعادة التي عاشها أهالي المفرج عنهم خاصة الأمهات والأخوات، هذا الفرح يتمنى الجميع أن يكتمل بالإفراج عن جميع الأسرى، والوصول إلى اتفاقيات سلام بين كل أطراف النزاع من أجل السلام الذي ينشده اليمنيون الذين أنهكتهم الحرب وأصلتهم لحافة الفقر مرغمين.
دور اللجنة الدولية للصليب الأحمر
نظرًا للأهمية الإنسانية التي يتضمنها ملف الأسرى، منصة (نسوان فويس) أجرت لقاءً مع المتحدث الرسمي باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في اليمن الأستاذ (علي الداوودي) أوضح فيه أهمية الدور الذي تقوم به اللجنة الدولية للصليب الأحمر في اليمن من أجل لم شمل الأسر بأبنائها المحتجزين، وأكد الداوودي
بأن اللجنة الدولية للصليب الأحمر دعمت منذ بداية النزاع إعادة أكثر من 1800 محتجز إلى ديارهم بالتنسيق الوثيق مع السلطات المعنية .
اتفاق جديد
وعن وجود اتفاقيات قادمة تشرف عليها اللجنة الدولية للصليب الأحمر من أجل الإفراج عن مزيد من المحتجزين تؤكد اللجنة الدولية للصليب الأحمر بأن إطلاق سراح المحتجزين في اليمن مسألة تعود لأطراف النزاع: “من المهم الإشارة إلى أن إطلاق سراح المحتجزين في اليمن هو في نهاية المطاف مسألة تعود لأطراف النزاع، ففي حين تلتزم اللجنة الدولية بتسهيل هذه العملية، فإننا نعتمد على رغبة الأطراف المعنية وتعاونها لتحقيق ذلك”.
وفي حين أن اللجنة الدولية تبذل جهداً من أجل الإفراج عن الأسرى إلا أن الأمر يحتاج إلى تكاتف كل الجهات المعنية في الشمال والجنوب والمتحالفة للعمل بجدية من أجل هذا الملف الإنساني الحساس من أجل إنهاء معاناة مئات بل آلاف الأسر التي تعاني الفقد.
تطلعات نحو السلام
وحول تطلعات اللجنة الدولية في اليمن لإنهاء الأزمة وإحلال السلام يقول (الداوودي): “نتطلعُ إلى انتهاء الأزمة وتحقيق سلامٍ دائم في اليمن، فالوضع الإنساني في اليمن ما زال مُزريًا وهناك ملايين الأشخاص بحاجة إلى المساعدة والحماية، لقد تسبب النزاع في معاناة هائلة للشعب اليمني، ومن الأهمية بمكان أن تعمل جميع أطراف النزاع من أجل التوصل إلى حل سلمي”.
كما يؤكد ترحب اللجنة الدولية بجميع الجهود الساعية إلى وضع حد للنزاع وإحلال سلامٍ دائم في اليمن.
يبقى التوصل لحل سلمي بين أطراف الصراع هو الخبر المنتظر من قبل اليمنيين من أجل أن تعود الحياة لطبيعتها وتبدأ مرحلة إعادة البناء والإعمار، وقبلها إعادة بناء الثقة لليمنيين بأن السلام هو النهج الذي سيسلكه الجميع من أجلهم.
في ظل الجهود المبذولة من قبل المنظمات الإنسانية المحلية والدولية من أجل الإفراج عن جميع أسرى الحرب في اليمن من الطرفين كمبادرة إنسانية تتماشى مع قانون حقوق الإنسان، يظل الدور الأبرز والأهم هو دور السلطات المعنية لدى كافة أطراف الصراع من أجل وأد دموع النساء الموجعة قلوبهن على ذويهن، فكل ما تتمناه المرأة اليمنية هو السلام والأمن والأمان لها ولأبنائها وكافة أفراد المجتمع، فهل يا ترى سنلحظ في الأيام القادمة صفقات أخرى تفرح قلوب الكثير من المكلومات في هذا الوطن الجريح؟!