مروى العريقي – نسوان فويس
كثيرة هي الأُسر المُعدمة في اليمن ، البلد الذي يعيش فيه أكثر من 25.5 مليون يمني تحت خط الفقر بحسب المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة ، و بسبب الحرب المستمرة فيها منذ العام 2015 زادت نسبة الفقر إلى الثلثين وفق تقرير “تقييم تأثير الحرب في اليمن على تحقيق أهداف التنمية المستدامة (SDGs)” الذي أعده برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ، و الذي حذر من استمرار الصراع في البلاد ، ملوحاً بأن اليمن سيصبح أفقر بلد في العالم مع نهاية العام 2022
و قال التقرير أن نسبة السكان الذين يعيشون في فقر مدقع ستتضاعف و ستصل إلى 65% بنهاية العام الحالي ، الأمر الذي يكشف معه صعوبة الوضع المعيشي على السكان ، لغياب فرص العمل من جانب و استمرار انقطاع رواتب الموظفين من جانب آخر ، ما يجعل اعتمادهم على المساعدات – السلال الغذائية – المقدمة من المنظمات الإنسانية ، و التي بدورها قللت من تلك المساعدات لإحجام عدد من المانحين عن تقديم الدعم المالي و في مقدمتهم المملكة العربية السعودية التي أعلنت اكتفائها بما قدمته من مساعدات سابقة في تنصل واضح منها على الإيفاء بوعودها في إعادة إعمار اليمن ..
منصة نسوان فويس زارت إحدى الأسر المتضررة جرّاء الحرب ، و استمعنا لقصص التشرد و ألم العوز و محاولاتهم المستمرة في الصمود بوجه العثرات المتلاحقة عليهم ، فحال أسرة الخالة مريم ما هي إلا انعكاساً لواقع مئات الأُسر اليمنية التي تعيش ذات الأوجاع بصمت ، دون أن يلتفت لمعاناتهم أحد..
قبل الحرب كان يأتي زوجها منتصف اليوم بعد انتهاء عمله اليومي ، حاملاً معه أغصان القات و احتياجات الأطفال ، تتسامر العائلة الصغيرة خاصة في نهاية الأسبوع ، هكذا كانت حياة الخالة مريم فهي من بين آلاف من اليمنيات اللواتي لم يتلقين تعليمهن ، قذفن للزواج ، و أصبحن أمهات يقضين وقتهن في الاعتناء بالبيت و الأطفال ، فالزوج هو من يتكفل بكل مستلزمات الأسرة من تأمين السكن و المأكل و المشرب بحسب ما هو جاري في مناطق عديدة من اليمن ..
البحث عن الرزق
لم يدم الاستقرار في حياة العائلة طويلاً ، فالشركة التي يعمل بها الزوج أغلقت بسبب الحرب التي شنتها دول التحالف بقيادة السعودية مطلع العام 2015، و تم تسريح جميع العاملين فيها ، بات الزوج دون عمل لكنه قرر شراء سيارة أجرة لعلها البديل الأفضل في بلد تخوض حرب لا يعلم أحد ما هي نتائجها ، شعرت الأسرة بالأمان لكن سرعان ما انقلب هذا الأمان إلى تشرد و بؤس ، بعد أن أُصيب الزوج بانزلاق في العمود الفقري جرّاء حادث سير تسبب في إعاقة دائمة له ، فلم يعد كما كان في السابق ، إذ لا يستطيع الوقوف على قدميه لفترات طويلة ، و فقدت الأسرة مصدر دخلها الوحيد من جديد ..
التشرد
من هنا بدأت أيام الشدائد بالنسبة للأسرة ، فعلاج الزوج استنزف ما لديها و تراكمت مبالغ إيجارات المنزل فلا مصدر دخل يعود عليهم ، و لا أهل قادرون على تقديم المساعدة ، تركوا جزء من أثاث المنزل كرهنٍ حتى سداد ما عليهم لصاحب المنزل ، و انتقلوا إلى منزل آخر أصغر مساحة و أقل قيمة ، و بات على الخالة مريم أن تعمل..
احتارت الأم ذات الثلاثة عقود و نيف في العمل الذي يمكنها القيام به ، شرعت للعمل في المدرسة الحكومية القريبة منها كعاملة نظافة بشكل مؤقت حتى تعود العاملة من إجازتها المرضية ، و هناك تعرفت على المعلمات و استطاعت تكوين علاقات جيدة معهن ، تعمل في المدرسة ظهراً و في عدد من الصباحات تستدعيها إحداهن لتنظيف منزلها ، جاءت العاملة و انقطعت رواتب الموظفين فعادت الخالة مريم للشتات..
العراء
هذه المرة كان الشارع هو مصير الأسرة التي يزداد أعداد أفرادها عام بعد آخر فاليوم لدى عبد الرحمن ثلاث شقيقات يصغرنه ، مكثت الأم و الفتيات في منزل إحدى المعلمات التي كانت تعمل لديها ، و ظل الأب و ولده في العراء ليلتين بعد أن وجدوا منزل شعبي في أطراف المدينة ، جعل الخالة مريم بعيدة عن جميع من عرفتهن ما أفقد الأسرة مصدر رزقها للمرة الثالثة ..
العمل مقابل الإيواء
مع البحث المستمر عن عمل وجدت الخالة مريم فرصة رأتها الإنقاذ الوحيد لعائلتها من بطش الأيام و غدر الزمان ، فقد عرض عليها أحد المستشفيات صُنع 600 قطعة خبز في اليوم الواحد مقابل توفير منزل لها و توفير مستلزمات الخبز ، وافقت دون تردد فالهّم الأكبر بالنسبة لها انزاح و هو سداد ايجار المنزل ، تعاونت الأسرة كلها في إعداد الخبز ، شارك الزوج في خلط المكونات (العجن) و ساعدت الفتيات كُلاً بحسب استطاعتها ، انشغل الجميع في تجهيز العدد المطلوب و في الوقت المحدد ..
200 قطعة خبز لكل وجبة ، ما أن ينتهوا من توفير عدد الوجبة الأولى حتى يحين وقت الإعداد للوجبة التالية ، فجّل وقت الأسرة في عمل واحد أمّنوا من خلاله المأوى لكنهم لم يستطيعوا توفير المأكل ، و مع رفض المستشفى اعطاءهم مبلغ مالي إلى جانب المنزل الشعبي أصبح على الأسرة البحث عن منزل بأقل التكاليف و ترك أمر الرزق على الله ..
تقطن الأسرة اليوم في منزل متهالك تتسرب إليه مياه الأمطار و تحاصره مياه المجاري المهملة كلما امتلأت ، أصبح عبد الرحمن يافعاً في سن الثالثة عشر ، ازاح عن أمه همّ السنوات السابقة ، ترك تعليمه و انخرط في أعمال الحدادة حتى يستطيع تسديد ايجار ذاك المنزل ، أما والدته فتذهب للمدرسة المجاورة منهم تبيع ما تستطيع حمله من حلويات للأطفال (جعالة) لعلها تعود بقيمة الطعام لأسرتها ..