اصالة حداد – نسوان فويس
في إحدى الليالي سقطت صواريخ على مقربة من المنزل الذي تقيم فيه الصحفية اليمنية سارة (اسم مستعار)، حيث تعيش مع طفلتَيها.
لم تكن المنطقة مصنّفة كمنطقة اشتباك، لكن الحرب كطبيعتها لا تقيم وزنا لاعتبارات الأنسنة، ولا تعترف بتصنيف وفرز أطرافها من ضحاياها.
خلال لحظات تحوّل الإحساس المؤقت بالأمان إلى خوف دائم، لا يفارق تفكيرها، ولا يسمح لها بالعودة إلى الحياة الطبيعية أو العمل كما كان من قبل.
بالنسبة للصحفيات (الأمهات) لا يُقاس الخطر فقط بمدى قرب الخطر، بل بما يتركه أيضا من أثر نفسي طويل الأمد، لا يبرأ مع الزمن، خاصة عندما يتقاطع الخوف مع مسؤولية حماية الأطفال، ومع ضغوط مهنة تتطلب الحضور والتركيز والقدرة على التغطية في ظروف استثنائية.
الصحفيات الأمهات.. ومواجهة الخوف
تجد كثير من الصحفيات اليمنيات أنفسهن أمام معادلة قاسية؛ إما الاستمرار في العمل الإعلامي، أو التفرغ لرعاية وحماية أطفالهن في بيئة غير مستقرة.
يبدو هذا الأمر ملحا وواضحا بعد أول حادثة انفجار قريب، حيث تغير كل شيء، وأصبح الخروج للعمل مخاطرة، بينما تحولت الأخبار من مادة تُكتب إلى مشاهد تعيشها الصحفية داخل منزلها.
لسان حال الصحفيين والصحفيات، أننا لا نستطيع ممارسة مهامنا، فضلًا عن سيطرة السؤال المصيري: ماذا لو كنا نحن ومن نحب في المكان الخطأ في الوقت الخطأ؟
صحفية، أم، وامرأة حامل
خلال السنوات الماضية، اضطرت صحفيات كثيرات للنزوح من محافظة إلى أخرى بسبب الحرب، بعضهن خلال فترات الحمل: ” عندما حاولنا النجاة من الحرب نزحنا من محافظة لمحافظة عبر طرق صحراوية طويلة، وغير آمنة. كنت حينها حامل بطفلتي الثانية وكان الألم مضاعفًا) تقول سارة لـ “نسوان فويس”.
هكذا، تعاني النساء والحوامل منهن تحديدا، في ظل غياب الرعاية الصحية المنتظمة، التي شكّلت عبئًا جسديًا ونفسيًا إضافيًا.
وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، يوجد نحو 4.8 مليون نازح داخليًا في اليمن، تشكّل النساء والفتيات نسبة كبيرة منهم. هذا السياق العام يفسّر حجم التحديات التي تواجهها الصحفيات الأمهات، اللواتي يعشن النزوح ليس كخبر، بل كتجربة شخصية متكررة.
الأمومة والعمل.. فرص مؤجلة
في إحدى المرات، حصلت سارة على فرصة عمل في إذاعة محلية، كانت تمثل خطوة مهمة في مسارها المهني. لكن الخوف حال دون قبولها العرض؛ الخوف من ترك أطفالها، ومن عدم توفر بيئة آمنة لرعايتهم، ومن احتمالات القصف أو التنقل غير الآمن، تقول سارة: “رفضت العرض رغم حاجتي له، خوفا على أطفالي، إذ كان كل تفكيري في سلامتهم، وألا يحدث لهم شيء وأنا غائبة عنهم. هاجس تملكني لدرجة، أنه كان بيننا وبين الجنان شعرة)
هذه التجربة ليست واحدة واستثناءً، بل مثالًا حيا، على التحديات الموضوعية والمهنية التي تواجه الصحافيات اليمنيات أثناء الحرب والصراع، وكيف تحويل الخوف إلى عامل حاسم في اتخاذ قرارات العمل، خصوصًا لدى الأمهات!
الصحفيات الأمهات أكثر عرضة لتراكم الصدمات النفسية، نتيجة الجمع بين التعرض غير المباشر للعنف من خلال العمل الإعلامي، والخوف المباشر على الأطفال، ما يؤدي إلى أعراض مثل القلق المزمن، نوبات الهلع، واضطرابات النوم
الصحة النفسية: عبء غير مرئي
لا تتوقف آثار الحرب عند حدود الجسد أو المكان، بل تمتد إلى الصحة النفسية، حيث تشير تقديرات أممية إلى أن نحو 7 ملايين شخص في اليمن بحاجة إلى خدمات دعم نفسي، في وقت لا تصل فيه هذه الخدمات إلا إلى عدد محدود.
في سياق متصل تتحدث الأخصائية النفسية، وفاء سعد، لمنصة “نسوان فويس” قائلة: ” التعرض المستمر للخوف-خصوصًا أثناء الحمل أو الأمومة المبكرة-قد يؤثر مباشرة على الصحة النفسية والإنجابية، ويضاعف القلق، ويؤثر على القدرة على العمل واتخاذ القرار، وعلى العلاقة بالأطفال أيضا”..
مؤكدة أن الصحفيات الأمهات أكثر عرضة لتراكم الصدمات النفسية، نتيجة الجمع بين التعرض غير المباشر للعنف من خلال العمل الإعلامي، والخوف المباشر على الأطفال، ما يؤدي إلى أعراض مثل القلق المزمن، نوبات الهلع، واضطرابات النوم.
الصحة الإنجابية في سياق هش
بحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA)، تحتاج قرابة 5 ملايين امرأة وفتاة في سن الإنجاب في اليمن إلى خدمات الصحة الإنجابية، بينما تعاني أكثر من 1.3 مليون امرأة حامل ومرضعة من سوء التغذية الحاد.
بالنسبة للصحفيات الأمهات، فإن هذه الأرقام تشكل خلفية واقعية لتجربة الحمل والولادة في ظل نزاع مستمر، حيث يصبح الوصول إلى رعاية صحية آمنة تحديًا حقيقيًا، خاصة في مناطق النزوح أو المناطق التي تضررت بنيتها الصحية.
العنف خطر يضاعف القيود
في سياق النزاع والنزوح، تواجه النساء مخاطر إضافية مرتبطة بالعنف القائم على النوع الاجتماعي. إذ تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن أكثر من 6.2 مليون امرأة وفتاة في اليمن معرضات لهذا النوع من العنف.
هذا الواقع يدفع كثيرًا من الصحفيات الأمهات إلى تقليل التنقل الميداني أو رفض تغطيات خطرة، ما يحدّ من مشاركتهن المهنية، ويعمّق الفجوة بين الطموح الصحفي ومتطلبات السلامة الشخصية والأسرية.
أزمة ممتدة تتجاوز سنوات الحرب
في ذات الصدد يرى مختصون أن آثار الحرب على النساء، خصوصًا الأمهات العاملات في الإعلام، لا تنتهي بانتهاء النزوح أو القصف، بل تمتد لسنوات طويلة. فالخوف الذي تعيشه الأم اليوم ينعكس على قراراتها وعملها، وصحتها النفسية، وعلاقتها بأطفالها ومستقبلهم.
في بلد يحتاج فيه نحو 19.5 مليون شخص إلى مساعدات إنسانية، تبقى الصحفيات الأمهات في موقع معقّد: ناقلات للقصص الإنسانية من جهة، وفاعلات داخل هذه القصص من جهة أخرى فهل يمكن ان نجد طريقه لدعم هؤلاء النساء وتمكينهن من الجمع بين الامومة والمهنة في ظل النزاع المستمر؟
تم توليد الصورة بواسطة الذكاء الاصطناعي

