نورا فهد – نسوان فويس
في صباحٍ يوم تعزي مشرق، دخلت المحامية نميم محمد قاعة المحكمة بخطوات واثقة، تحمل بين يديها ملف قضية شائكة تتابعها منذ أسابيع. كانت ملامح نميم تبدو هادئة، لكن نظرات الاستغراب، والقلق والاستخفاف من بعض الحاضرين تُعيد إلى ذهنها حكاية تتكرر كل يوم في حياة الكثير من المحاميات اليمنيات.
تستذكر نميم الموقف وهي تبتسم بحزن، قائلة:” كان موكلي يعرض عليّ المحاضر والعرائض، وأقوم بالرد عليها، لكنه لم يُصدر لي توكيلا رسميا، خجلا من أن يقول لخصومه إن محاميته امرأة “.
وراء هذا المشهد اليومي تكمن حكاية أكبر عن صراع المرأة داخل مهنة يُفترض أنها نصير للعدالة، بينما هي في الواقع مرآة تعكس بجلاء التفاوت بين الجنسين في فرص العمل والاعتراف.
الكثير من المتقاضين يعتقدون أن المرأة غير قادرة على التعامل مع القضايا الكبرى، خاصة القضايا الجنائية أو تلك المتعلقة بالميراث والأراضي، رغم أن بعضهم يؤمن بكفاءتنا لكنه يخشى كلام الناس
تحديات مضاعفة
تتحدث نميم لـ”نسوان فويس” عن تجربتها التي تخللها الصبر والعديد من المواقف المحرجة، قائلة: “الكثير من المتقاضين يعتقدون أن المرأة غير قادرة على التعامل مع القضايا الكبرى، خاصة القضايا الجنائية أو تلك المتعلقة بالميراث والأراضي، رغم أن بعضهم يؤمن بكفاءتنا لكنه يخشى كلام الناس”.
لا يقتصر هذا التمييز على الموكلين فحسب، بل يمتد إلى داخل أروقة القضاء نفسه، حيث تُعامل المحامية أحيانا بنظرة دونية، أو توضع في موقع غير متكافئ مع زملائها الرجال. “نحن نُعامل أحيانًا كاستثناءٍ أو زينة للمهنة، لا كشريكات حقيقيات فيها”، تقول نميم بأسى.
البيئة الصعبة للمحاميات
في سياق آخر، تتحدث المحامية ندى الشوافي – محافظة تعز- أيضا عن جانب آخر من المعاناة التي تواجه المحاميات اليمنيات في الميدان، قائلة: لـ “نسوان فويس ” بيئة عملنا كمحاميات داخل المحاكم غير مريحة؛ المباني ضيقة، ولا توجد غرف مخصصة للمحاميات، مما يجعلنا عرضة للمضايقات في الممرات وأثناء انتظار الجلسات”.
وتضيف أن الحرب والوضع الأمني المعقد زادا من صعوبة ممارسة المهنة: ” لم يعد من السهل متابعة القضايا الجنائية أو النزاعات الكبيرة نتيجة تزايد التهديدات ضد المحامين، وبعض الزملاء تعرضوا للاعتداء المباشر، أو أُحرقت سياراتهم، ولهذا نضطر أحيانًا لرفض بعض القضايا لحماية أنفسنا “.
تصريح ندى صادم، ويكشف أن الخطر المحدق بالمحاميات لم يعد معنويا فقط، بل بات تهديدا ماثلا يهدد أمنهن النفسي أحيانا، ويشكل خطورة محدقة على السلامة الشخصية لهن، في مهنة كان يُفترض أن تُدافع عن القانون لا أن تُعاقب عليه.
نظرة تقليدية متجذرة
من وجهة تحليل علم الاجتماع لهذا التمايز، يرى الدكتور ياسر الصلوي، أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة تعز، أن ما تواجهه المحاميات هو انعكاسٌ لثقافة اجتماعية راسخة.
يقول الصلوي لـ “نسوان فويس”:”تنطلق هذه النظرة من تصوّر المجتمع لدور المرأة، إذ يرى كثيرون أن دورها الطبيعي يجب أن يقتصر على البيت أو في نطاق وظائف محددة كالتعليم أو التمريض، وهي مهن تُعد أكثر قبولًا اجتماعيًا”.
ويضيف أن هذه المهنة بطبيعتها تتطلب حضورا قويا وتفاعلا مع الرجال من قضاة وخصوم ومراجعين، وهو ما يصطدم بالثقافة المحافظة التي ترى أن المرأة لا ينبغي أن تكون فاعلة في هذا النوع من وظائف المجال العام.
تحت سطوة هذه النظرة النمطية لطبيعة أدوار المرأة، يبدو الأمر كما لو كان معركة بين العقلية التقليدية والمرأة الحديثة التي تصرّ على كسر الحواجز والدفاع عن حقها في الوجود المهني الكامل.
عندما لا تشعر المحامية بالتقدير، تتراجع قدرتها على التركيز، وتشعر بالإرهاق العاطفي، وفي بعض الحالات، تصاب بما نسميه الاحتراق النفسي، وفقدان الشغف لتتحول إلى آلة تؤدي العمل بلا روح
أعباء مهنية ونفسية
تتجاوز التحديات الاجتماعية والمهنية حدود العمل اليومي للمحاميات، لتترك أثرها العميق على أدائهن المهني وصحتهن النفسية.
حول هذا السياق، توضح الناشطة الحقوقية، رغدة المقطري، أن هذه التداعيات تعيق عمل المحاميات على النحو المطلوب في ساحات العدالة، بسبب القيود المجتمعية وضعف الفرص، وقصور النظرة لمدى كفاءتهن مقارنة بزملائهن من الرجال.
وتضيف في حديثها لـ “نسوان فويس”: ” إن هذه العوامل تؤثر في جودة الخدمات القانونية المقدمة، كونها تُقصي جانبًا مهمًا من الكفاءات النسوية المؤهلة في الميدان “.
وبينما تؤثر هذه القيود على الأداء المهني، تمتد انعكاساتها لتشمل الجانب النفسي للمحاميات. تقول الخبيرة النفسية، كريمة الصمدي، إن المحامية عندما لا تشعر بالتقدير أو تواجه نظرة سلبية من المجتمع، تبدأ تدريجيا بفقدان الثقة بنفسها وبكفاءتها.
” عندما لا تشعر المحامية بالتقدير، تتراجع قدرتها على التركيز، وتشعر بالإرهاق العاطفي، وفي بعض الحالات، تصاب بما نسميه الاحتراق النفسي، وفقدان الشغف لتتحول إلى آلة تؤدي العمل بلا روح “، تشرح الصمدي.
وتشير في حديثها لـ “نسوان فويس”، إلى أن غياب الاستقرار الوظيفي أو الاجتماعي، وشعور المحامية بعدم الأمان في بيئتها المحيطة، يولّد لديها قلقا دائما وخوفا من المستقبل، مؤكدة أن تكرار الإحباط أو الإحساس بالعجز عن التغيير يدفع بعضهن إلى الانسحاب الاجتماعي وفقدان الرغبة في الأنشطة اليومية.
وفي نهاية المطاف، ترى الصمدي أن أخطر ما يمكن أن تواجهه المحامية في ظل هذه الضغوط هو الاحتراق النفسي، وهي الحالة التي تصيب من يبذلن جهدًا عاطفيا كبيرا دون دعم أو تقدير كافٍ، ومن ثم التحول إلى شخصية آلية تنفذ مهامها وحسب، في مقابل تعالم الأعباء المهنية والنفسية التي تثقل كاهلها.
التشريعات القانونية تتيح للمرأة إلى حد كبير العمل في مهنة المحاماة، لكن المشكلة ليست في القوانين نفسها، بل في الممارسات اليومية التي تحتاج إلى توعية القضاة والعاملين في السلك القضائي لتقبّل المرأة كشريكة مهنية وتمكينها من ممارسة مهامها
منظومة الحل والتغيير
ورغم الظلال التي تلقيها التحديات على عمل المحاميات، لا يزال الأمل ممكنًا في كسر هذه الحلقة وتحويل الصعوبات إلى فرص للنهوض.
يؤكد الدكتور الصلوي أن مواجهة هذه التحديات تتطلب منظومة متكاملة، تشمل الجهات الرسمية والمجتمعية، لتغيير النظرة التقليدية تجاه المرأة وتعزيز مكانتها المهنية في المحاماة والمجال الحقوقي بشكل عام.
ويضيف “التشريعات القانونية تتيح للمرأة إلى حد كبير العمل في مهنة المحاماة، لكن المشكلة ليست في القوانين نفسها، بل في الممارسات اليومية التي تحتاج إلى توعية القضاة والعاملين في السلك القضائي لتقبّل المرأة كشريكة مهنية وتمكينها من ممارسة مهامها”.
ويشير الصلوي إلى أن هذا التمكين يعزز ثقة المحاميات بأنفسهن، ويشجع أخريات على خوض التجربة المهنية في بيئة أكثر عدالة واحتراما. كما يدعو إلى إطلاق حملات توعية شاملة تستهدف المجتمع وخطباء المساجد والدعاة، لتصحيح الخطاب الديني تجاه المرأة العاملة في مثل هذه المجالات، باعتبار أن هذا الخطاب جزء لا يتجزأ من البنية الثقافية للمجتمع. ويؤكد أن تحديثه سيسهم في نشر ثقافة قانونية إيجابية أكثر تقبّلًا لدور المرأة المهني.
من جانبها تؤكد الناشطة رغدة المقطري، على ضرورة تفعيل سياسات التمكين والتدريب المهني للمحاميات داخل النقابة العامة للمحامين والهيئات القضائية والمنظمات ذات العلاقة، وضمان تكافؤ الفرص في التدريب والتعيين والتمثيل.
وتشير إلى أهمية تغيير النظرة المجتمعية التقليدية تجاه عمل المرأة في مهنة المحاماة عبر حملات إعلامية وتوعوية تبرز نجاح المحاميات ونماذجهن المشرفة في الدفاع عن الحقوق والحريات.
وتختتم المقطري حديثها بالتأكيد على أن دعم المحاميات وتمكينهن ليس مطلبًا فئويًا، بل خطوة أساسية لتعزيز العدالة وسيادة القانون في المجتمع.
في النهاية، تظل المحاميات اليمنيات مثالا على الإصرار في وجه القيود الاجتماعية والمهنية، وبالتالي فإن دعمهن وتمكينهن ليس خيارا، بل ركيزة أساسية لتعزيز العدالة وسيادة القانون، ولبناء مجتمع أكثر إنصافا وتقديرا للكفاءات النسائية.

