أمل وحيش- نسوان فويس
يُعَدّ التجميلُ جزءًا من فطرة المرأة، وأساسًا لا غنى عنه في ثقافتها. فالأناملُ التي تُبدِع في رسم نقوش الحناء والخضاب، والأصواتُ التي تشدو فرحًا في المناسبات، والأيادي التي تضع لمساتها لتكتمل إطلالة العروس ومن حولها من السيدات، جميعُها أدواتٌ لصناعة البهجة. لكن المفارقة أن من يُمارسن هذه المهن الإبداعية في اليمن يواجهن غالبًا رفضًا مجتمعيًا.
تاريخيًا، كانت هذه الحرف حكرًا على فئة اجتماعية معينة يطلق عليها في اليمن (المزينات)، ولا يليق باليمنيين من طبقات أخرى ممارستها.
لكن بفعل الظروف الاقتصادية الصعبة، التي أنتجتها الحرب الدائرة في اليمن منذ سنوات، اتجهت الكثير من النساء والفتيات إلى افتتاح صالونات تجميل وامتهان النقش، والغناء، وكل ما من شأنه صناعة الفرحة في كل المناسبات الاجتماعية.

مخاوف ومعارضة شديدة
إكرام المريحي، شابة من صنعاء ، خريجة إدارة أعمال، بدأت مشوارها في مجال ” النقش” بالحناء مطلع العام 2009. غير أن بدايتها لم تكن سهلة، إذ واجهت معارضة شديدة من أسرتها والمقربين منها، الذين اعتبروا عملها خروجًا عن الأعراف القبلية.
تقول إكرام لـ”نسوان فويس”: “كانت المعارضة كبيرة جدًا، بالنظر لمخاوف أسرتي أن يتم انتقاصها وإدراجها ضمن فئة(المزاينة) وهي طبقة دنيا بحسب التقسيمات الاجتماعية الطبقية المتخلفة للأسف الشديد”.
وتضيف أن شقيقها وصل به الأمر إلى الحلف بـ”اليمين والطلاق” لمنعها من ممارسة المهنة، معتبرًا أن عملي سيجلب العار للعائلة.
تحت هذا الضغط اضطرت إكرام لترك عملها عامًا كاملًا، قبل أن تلجأ إلى مفتي في الجامع الكبير بصنعاء، حيث وجدت عنده إجابة شافية، جعلتها تقتنع بأن عملها ليس حرامًا ولا عيبًا.
تقول المريحي:” منذ ذلك الحين، عدتُ إلى ممارسة النقش بثقة أكبر، متجاوزة كل العبارات الجارحة التي كنت اسمعها، على شاكلة (ما عاد بتتزوجي، قد خربتي أصلك بالنقش)”!!.
الإصرار كفيل بالوصول
كغيرها من النساء، تأثرت إكرام بتبعات الحرب وما أفرزته من مسؤوليات أثقلت كاهلها. وبرغم الصعوبات المادية وارتفاع أسعار المواد الخام، واصلت عملها في المهنة، ومن خلال عملها هذا تمكنت من تحسين وضعها المعيشي، ومعيشة أسرتها، واستطاعت بفضل عائدها من مواصلة تعليمها. وحتى بعد زواج إكرام، ما تزال هذه المهنة تشكّل مصدر دعم أساسي للأسرة.
أدركت إكرام أهمية التواجد الرقمي، فأنشأت صفحات على منصات التواصل الاجتماعي لتسويق أعمالها واستقطاب العميلات، معتمدة على ثقتها بنفسها وقناعتها بأن العمل الشريف، أياً كان، شرف لكل امرأة ورجل قادر على العطاء ومواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة.
النقش فن وحياة
في المقابل، ترى إكرام أن المجتمع أصبح أكثر تقبلًا لمهنة النقش عن ذي قبل، مؤكدة أن الإتقان وحده هو الحكم، علاوة على الحاجة اليومية والتجميلية لهذه المهنة من قبل اليمنيات.
وعن شعورها أثناء العمل تقول:” بعد أن تختار الزبونة النقوش التي تعجبها، أتعرف على ذوقها من خلال تعدد اختياراتها، وحين تترك لي مساحة للإبداع تنطلق أفكاري أكثر، حينها أتمكّن من صناعة نقش يمزح بين رغبة الزبونة وإضفاء لمساتي، ومن ثم الخروج بنتيجة مُرضية.”
تتمنى إكرام أن يدرك المجتمع أن النقش ليس مهنة محتقرة ولا محرمة، بل هو فن وإبداع ووسيلة شريفة لكسب الرزق، وتضيف بأن النقش شرف ومصدر دخل حلال، وهوية جمالية يمنية تستحق التقدير.

العمل متخفية لسنوات
روضة محمد المنديل، محافظة حجة، هي إحدى النساء اللاتي واجهن صعوبات ومعارضة شديدة لعملها في مجال التجميل باعتبار المهنة محتقرة محليا، وتراها الأعراف (عيباً) لا يجدر بشخص من طبقة القبائل العمل بها.
بدأت روضة رحلتها بتعلم فنون التجميل في صالون بمنطقة(هايل) قبل أن تنتقل إلى منطقة (حدة) في صنعاء.
على مدار سبع سنوات، لم يعلم أحد من عائلتها، ولا حتى زوجها، أنها أتقنت المهنة وبدأت تمارسها عاملةً في أحد صالونات التجميل النسائية. كان دافعها لإخفاء الأمر هو الخوف من ردة الفعل العنيفة من قبل المجتمع المحيط بها.
لكن الوضع الاقتصادي كان مبرر قوي لتتحدى روضة هذه السياجات، والانتقال لمرحلة الكشف عن مهاراتها في مجال التجميل، مبتدئه بصديقاتها وجيرانها، لتكون شيئاً فشيئاً دائرة من الزبائن اللاتي كن يأتين إلى منزلها.
عندما عرف زوجها، ثار غضبه بشدة، وشعر أن في الأمر إهانة وانتقاصاً له ولعائلته، لكنه مع الوقت أيقن أن العمل الشريف لا عيب فيه.
قررت روضة المضي، حتى توفر لأطفالها دخل يضمن لهم التعليم ويوفر متطلباتهم الحياتية، تعتبر روضة مهنتها (نعمة من الله)، ساعدتها في مواجهة الأيام والمتطلبات الحياتية الصعبة.
استدانت روضة مبلغاً من المال لفتح مشروعها الخاص، حيث استأجرت محلاً صغيراً في حيها بمنطقة حدة، وأسمته (رورو) لتجهيز العرائس والسيدات، واشترت بعض المستلزمات البسيطة بمساعدة إحدى خبيرات التجميل التي دعمتها ببعض الأدوات لتبدأ مشروعها.
بدأت روضة بممارسة عملها على مستوى الحي، وبفضل تقديرها للزبائن، اعتمدت أسعاراً مخفضة؛ تقول روضة بهذا الصدد: “أقدر أوضاع الجميع، وأقدم أسعاراً خاصة لكل زبونة حسب ظروفها، كمساعدة مني لكثير نساء، هذه المرونة في التعامل ساهم في أن تجلب الزبونة، زبونة أخرى”.
بعد سبع سنوات من العمل في الخفاء، وعام ونصف منذ افتتاح محلها، تؤكد روضة أن نظرة المجتمع للعاملات في هذه المهن ستتغير مع الوقت.
وتضيف: “العمل الشريف، مهما كان نوعه، طالما أنه نابع من كد وعرق الجبين، ولا يتعدى على حقوق الآخرين، فهو حلال ولا عيب فيه”.
تواصل:” من يرفض أي مهنة حلال تحت دواعي طبقية ما أنزل الله بها من سلطان، متخلف وجاهل، ولا يعي الغاية من تسخير الله الناس للناس، وكسب الرزق الحلال، الذي يغنيك عن إهانة الكرامة ومد يدك للآخرين”.

الضرورة في مواجهة العيب
ترى الدكتورة سميرة الشهاري، أستاذة الإرشاد والعلاج النفسي المساعد بجامعة إب، أن تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية دفع الكثيرين إلى امتهان أعمال كانت (محتقرة) اجتماعيًا في السابق.
وتُرجع الدكتورة الشهاري هذا التحول إلى عدة أسباب رئيسية منها تداعيات الحرب التي أدت إلى تدهور الاقتصاد، وانقطاع الرواتب، وإفلاس العديد من المشاريع التجارية، إضافة إلى ندرة فرص العمل حيث تضاءلت الوظائف التقليدية في القطاعين الحكومي والخاص، وتقلصت فرص العمل في مجالات الزراعة والصناعة والتجارة. وتدهور قيمة العملة، أضف إلى ذلك تحديات الهجرة والاغتراب، صعوبة هذه العوامل مجتمعةً أجبرت العديد من الأسر والأفراد، على قبول هذه المهن سرًا أو علنًا، سواء في المحلات أو من المنازل، وذلك لتأمين متطلبات الحياة الأساسية.
الضغوط النفسية
يترتب على هذا الرفض المجتمعي والنظرة الدونية للعاملات في هذه المهن آثار نفسية كبيرة. ورغم عدم وجود دراسات سيكولوجية و ميدانية توضح حجم الضرر، إلا أن الدكتورة الشهاري، من خلال خبرتها كمتخصصة في الإرشاد النفسي والاجتماعي ومن خلال وقوفها على بعض الحالات، تروي أن بعض النساء بدأن العمل سرًا من منازلهن، لكنهن واجهن ردود فعل سلبية من أسرهن. كان القلق الأكبر لدى الأهل هو أن هذه المهنة “ستقلل من قيمة الأسرة”، وأن اللقب الوظيفي (نقّاشة، كوافيرة) سيطغى على لقب العائلة، مما يجردهن من لقبهن و مكانتهن الاجتماعية.
وتضيف الشهاري أنه على الرغم من الحاجة الاقتصادية الشديدة، استسلمت بعض النساء لهذه الضغوط وتركن العمل تحت وطأة (العيب الاجتماعي) ووصمة العار. أما من استكملن مشوارها في العمل، فغالبًا ما يعانين من الاكتئاب، القلق، الإحباط، والصراعات النفسية، لأنهن عالقات بين مطرقة الحاجة وسندان الاحتقار الأسري والمجتمعي.
وتوضح أن قلة ممن تمكنّ من الصمود والاستمرار ممن وجدن الدعم النفسي والقبول الأسري، ونجحن في تجاوز النظرة الاجتماعية القاصرة تجاه هذه المهن.

مواجهة الوصمة المجتمعية
في السياق ترى الدكتورة الشهاري أن عامل الوقت كفيل بتغيير هذه النظرة الدونية، خاصة أن مهنًا مثل التجميل، الحلاقة، النقش، والغناء النسائي لا تزال مربحة ومجدية اقتصاديًا.
وتضيف أن استمرار الضغوط الاقتصادية قد يدفع المزيد من الناس، الذين فقدوا رواتبهم أو أعمالهم، إلى دخول مجالات كانت حكرا على طبقة بعينها، إما بأنفسهم أو عبر نسائهم، ليصبح الأمر واقعًا بديل يتجه له الناس من كل الفئات، مؤكدة على أهمية الوعي والتثقيف المستمر للمجتمع بأن هذه الأعمال الخدمية والإنتاجية هي أعمال عظيمة لا تحتقرها الأديان أو القيم الأخلاقية.
تدعو الدكتورة الشهاري في ختام حديثها لـ”نسوان فويس” إلى ضرورة تكثيف التوعية الاجتماعية والثقافية والدينية والنفسية، الموجهة لدعم هذه الفئات خصوصًا، وإبراز قدسية العمل الشريف، بعيدًا عن أي نظرة اجتماعية لا تستند إلى الدين الإسلامي أو القيم الإنسانية والاجتماعية.
الصور مولدة بالذكاء الاصطناعي

