أمة الرحمن العفوري – نسوان فويس
منذ ثورة 2011، لعبت المرأة اليمنية، وخاصة في عدن، دوراً محورياً في الحراك الشعبي والسياسي والاجتماعي. خرجت النساء في مسيرات ووقفات احتجاجية، رفعن أصواتهن عالياً للمطالبة بالحقوق، الكرامة، والعدالة، وقاومن الإقصاء والتهميش رغم التحديات الجسيمة التي فرضتها التحولات السياسية والحرب. لقد قدمن تضحيات هائلة، فقدن أزواجهن وأبناءهن، وتحملن مسؤوليات إعالة أسرهن في ظل انهيار المؤسسات وغياب الدولة، ليصبحن ركيزة أساسية في البقاء المجتمعي وسط الفوضى والانهيار.
مكاسب الحوار الوطني
شكل مؤتمر الحوار الوطني الشامل (2012-2014) بارقة أمل للمرأة اليمنية بعد سنوات طويلة من التهميش. فبعد ثورة 2011 وتصاعد نضال الحركة الشعبية لإسقاط النظام وبناء دولة مدنية حديثة، تمكنت الحركة النسوية من إبراز حضورها وانتزاع كوتا بنسبة 30% في مؤتمر الحوار.
كانت هذه النسبة تتويجاً لنضالات متواصلة للنساء وضغوطات دولية فتحت لهن باباً غير مسبوق للمشاركة في رسم ملامح مستقبل البلاد. نتج عن المؤتمر وثيقة تضمنت توصيات ضمنت للمرأة الاعتراف بشخصيتها الاعتبارية والمواطنة الكاملة، ومقاعد بنسبة 30% في مواقع صنع القرار، وهي مكاسب لم تشهدها المرأة اليمنية من قبل.
لكن هذه الإنجازات لم تكتمل. فمع اندلاع الحرب، لم تخسر النساء الحقوق التي وُعدن بها فحسب، بل خسرن مساحات كبيرة لإثبات وجودهن. تحوّل العنف ضدهن إلى جزء من المشهد العام في ظل انهيار شبه تام للدولة.
خلال السنوات التالية، لم تسلم المرأة من التشريد والنزوح، ولا من الألغام أو القنص أو الإهمال الطبي. كانت شريكة في كل وجع، لكنها غُيّبت عن الحلول ومُنعت من مواقع القرار، سواء من قبل الحكومة، التحالف، أو المجتمع الدولي. ظلت المرأة اليمنية صامدة في ساحة الصراع اليومي من أجل البقاء، بينما غاب صوتها عن طاولات المفاوضات وظلت تمثل نفسها بنفسها في الشارع.
احتجاج يهز جدران التجاهل في عدن
في 10 مايو المنصرم، أطلقت النساء في عدن شرارة احتجاجية تحت مسمى “ثورة النساء“ هذه التظاهرات السلمية جاءت للمطالبة بالخدمات الأساسية، وعلى رأسها الكهرباء، وذلك بعد الانهيار الشامل الذي طال كل شيء. سرعان ما اتسعت رقعة هذه التظاهرات لتشمل محافظات أخرى منها أبين، لحج، وتعز.
لكن في عدن، واجهت النساء قمعاً وترهيباً صريحاً. ففي الوقفة الثالثة بتاريخ 24 مايو، تم الاعتداء على المتظاهرات من قبل نساء أمنيات، وطوّقتهن الأطقم العسكرية في ساحة العروض بمديرية خور مكسر.
وفي الوقفة السادسة التي انطلقت يوم السبت 13 يونيو في الخط الرئيسي بمديرية المعلا، جرى احتجاز المحامية عفراء حريري والحقوقية مها عوض لمدة ساعة على خلفية مشاركتهما في تنظيم الوقفة، ما شكّل سابقة خطيرة في تعامل الأجهزة الأمنية مع الحراك السلمي.
رغم كل ذلك، خرجت النساء رافعات شعارات بسيطة وواضحة جاء فيها: “نحن مش ضد حد ولا مع حد نحن نريد نعيش”، “نحن لا نريد صدقات نريد خدمات”، “لا للقمع”، “حقنا في الحياة هبة من الله عز وجل”، “لا سعودي ولا دولار نحن شعب مش تجار”، وغيرها من الشعارات المطالبة بالحياة الكريمة.
جاء هذا الحراك النسائي في لحظة انهيار اقتصادي غير مسبوق؛ حيث بلغ سعر الدولار 2560 ريالاً يمنياً، والريال السعودي 760 ريالاً، فيما لا يتجاوز راتب الموظف الحكومي 35 دولاراً شهرياً، وهو مبلغ لا يكفي حتى لتوفير ربع سلة غذائية.
أدى الإضراب الواسع في المدارس بسبب غياب الرواتب إلى تجهيل أجيال كاملة. كل هذا يجري في ظل استمرار صراعات النخب السياسية وتقاسمهم النفوذ على حساب المواطنين.
أزمة إنسانية تتجاهلها السلطات وتصريحات قوية
وصفت منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، وبرنامج الأغذية العالمي (WFP)، واليونيسف، الوضع الغذائي في جنوب اليمن بأنه “ينذر بكارثة”، محذرين من أن الأزمة مرشحة للتفاقم خلال الأشهر المقبلة ما لم تُتخذ إجراءات إنسانية عاجلة وفعالة. يواجه ما يقرب من نصف السكان في المناطق الخاضعة للحكومة خطر انعدام الأمن الغذائي الحاد، ويكافح الكثيرون من أجل تأمين وجبتهم التالية.
وفقاً لآخر تحديث للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي (IPC)، فإن نحو 4.95 مليون شخص بين مايو وأغسطس 2025 يعيشون في حالة انعدام أمن غذائي على مستوى الأزمة أو ما هو أسوأ (المرحلة الثالثة أو أعلى)، من بينهم 1.5 مليون في حالة طوارئ غذائية (المرحلة الرابعة). ومن المتوقع أن ينزلق 420 ألف شخص إضافي إلى مستويات الأزمة أو أسوأ بين سبتمبر 2025 وفبراير 2026، ما سيرفع العدد الإجمالي إلى 5.38 مليون شخص، أي أكثر من نصف سكان المحافظات الجنوبية.
ترتبط هذه الأزمة المتصاعدة بجملة من الأسباب المتشابكة، أبرزها التدهور الاقتصادي المستمر، وانخفاض قيمة العملة المحلية، والنزاعات المسلحة، إضافة إلى آثار التغير المناخي كتأخر مواسم الزراعة، وزيادة احتمالات الفيضانات، وانتشار أمراض الماشية والجراد الصحراوي. وتُؤكد الوكالات الإنسانية أن هناك حاجة ماسة لدعم فوري ومستدام لمنع المجتمعات من الانزلاق إلى مستويات أعمق من الجوع وضمان وصول السكان إلى الخدمات الأساسية وسبل العيش.
الصوت الذي لا يُراد له أن يُسمع
في ظل هذا الانهيار الشامل، يكتسب الحراك النسائي في عدن زخماً سياسياً وإنسانياً متصاعداً، ليس لأنه يطالب بالخدمات فحسب، بل لأنه يُعبّر عن صرخة ضمير حيّ وسط صمت دولي ومحلي مطبق.
تُؤكد المحامية والناشطة الحقوقية تهاني الصراري قناعتها بأن هذا الحراك ضرورة لا خيار: “مشاركتي في الوقفة السادسة كانت بمثابة تأكيد على التزامي العميق بقضية النساء وحقهن في التعبير والمطالبة بحقوقهن.
وتضيف في حديثها لمنصة نسوان فويس: شعرت بقوة النساء من حولي وبروح جماعية تعكس إصراراً لا يُكسر رغم كل المعوقات. كانت لحظة فخر ومساحة نضال مشروعة في وجه الصمت والتجاهل.”
وأردفت: “نطالب بمجتمع عادل وآمن للنساء ونرفض الغلاء المعيشي وعدم انتظام الرواتب واستمرار ارتفاع الصرف. التضييق الأمني يعكس خوفاً من هذا الحراك لكننا نرفض الصمت.”
من صميم العمل المجتمعي ومتابعة المطالب اليومية، جاءت شهادة أخرى من فاطمة مريسي، رئيسة اتحاد نساء اليمن: “مطالبنا إنسانية وليست سياسية. خرجنا من أجل الكهرباء والماء والتعليم والصحة. معظم المعلمات لم يتسلمن رواتبهن منذ شهور والوضع لم يعد يحتمل.
مضيفة في حديثها لمنصة نسوان فويس: تلقينا دعماً كبيراً من المجتمع المدني ومن الإعلام رغم كل التهديدات والاعتداءات التي تعرضنا لها، لكننا لن نتراجع لأن هدفنا هو العيش الكريم لا أكثر.”
ومن بين صفوف الحراك، تُصر نساء كثيرات على المضي قدماً رغم التجاهل الرسمي، منهن الناشطة المجتمعية مريم الهارش: “إن مشاركتنا في الوقفات تنبع من قناعة راسخة بأن صوت النساء له دور جوهري في التغيير “.
موضحة في حديثها لمنصة نسوان فويس: “تعامل السلطات معنا يؤكد أنهم لا يريدون سماعنا، لكننا سنستمر ونطالب بتمثيل عادل للنساء وتمكينهن في القرار والسياسات والحقوق والحريات والحياة الكريمة.”
وعن أشد المواقف تعقيداً، تحدثت الحقوقية مها عوض، لمنصة نسوان فويس، التي كانت من بين النساء اللواتي واجهن الاعتقال المؤقت أثناء الوقفة السادسة: “حقاً وضعنا في تجربة مريرة مع الاستقواء غير المشروع للسلطة حين أُجبرنا على التوجه لقسم شرطة المعلا دون توضيح السبب وبطريقة مهينة، وتُركنا في حوش القسم نواجه مصيراً مجهولاً. لولا تواصلنا الذاتي مع المحافظ ومدير الأمن لواجهنا تبعات أكثر قسوة.”
وأضافت: “كانت تجربة صادمة وقاسية شعرت خلالها أن ما مررنا به قد يكون تكراراً لحالات كثيرة لا تجد من يتابعها. وبعد الإفراج عنا واجهنا تطويقاً أمنياً جديداً لمنع استمرار تظاهرة النساء، واستُدعيت الشرطة النسائية لتقييد الحراك. لم يكن البيان الصادر عن أمن عدن إلا محاولة للالتفاف على الحقيقة وتشويه صورة المحتجات، وما يؤلم حقاً هو أن هذه التصرفات تصدر من أفراد أمن سبق أن تلقوا تدريبات حول حماية حقوق الإنسان.”
انتهاك الحق في التظاهر السلمي
في سياق الانتهاكات المتصاعدة التي طالت النساء المشاركات في الاحتجاجات السلمية بعدن، سلطت الخبيرة القانونية الدكتورة هبة عيدروس الضوء على سلسلة من التجاوزات الأمنية التي استهدفت ناشطات ونساء عاديات أثناء الدخول إلى مديرية المعلا يوم المظاهرة.
قالت عيدروس في حديثها لنسوان فويس: “يوم 14 يونيو الماضي، أُجبرت النساء في عدن على الخضوع لتفتيش هوياتهن بطريقة مهينة في نقطة أمنية بمنطقة جبل حديد بعد توقيف الحافلات بمبرر واهٍ: البحث عن مطلوبات أمنياً كأسلوب ترهيب للمشاركات. وهذا يُعد انتهاكاً صريحاً لحرية التنقل المنصوص عليها في المادة (57) من الدستور اليمني، والمادة (12) من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.”
وأشارت إلى أن ما حدث للناشطتين عفراء حريري ومها عوض من توقيف بطريقة مخالفة للقانون، “وكأنهما تقودان مطلوبات أمنياً!”، ثم الاحتجاز في حوش قسم شرطة المعلا وتركهما دون أي إجراء أو شرح للحالة التي وُضعن فيها نفسياً، “يمثل مخالفة صريحة لجوهر المادتين (8) و(73) من قانون الإجراءات الجزائية، والمادة (9) من العهد الدولي”، مؤكدة أن احتجازهما “لم يكن إلا لكونهما ناشطتين حقوقيتين فاعلتين في مدينة باتت الحريات فيها مقيدة.”
كما تطرقت إلى ما وصفته بـ”الاعتداء على الحق في التظاهر السلمي”، موضحة أنه حدث انتشار أمني مكثف للشرطة النسائية في شارع المعلا مزودة بالهروات ومعدات مكافحة الشغب بهدف التضييق على تجمع نساء عدن بصورة سلمية لرفضهن كل أوجه الظلم والممارسات غير الإنسانية وحرمانهن من حقوقهن التي تكفل لهن الحياة الكريمة: الراتب الكافي، الخدمات، التعليم الجيد، الصحة، وفرص العمل.
وكان ذلك مخالفاً بصورة واضحة للمادة (44) من الدستور اليمني، والمادة (21) من العهد الدولي، والمادة (20) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
واختتمت عيدروس حديثها بتساؤل حاد: “أين رئيس الحكومة من هذا المشهد؟ وما هي خطته لحماية المواطنين، خاصة النساء؟ وما هو دور محافظ عدن في مسألة الحد من تدهور الخدمات؟ إن استمرار الصمت إزاء ما يحصل يُعد شراكة وتخلياً من الدولة عن دورها الأساسي في حماية الحقوق والحريات.”
النساء في عدن اليوم لا يناضلن فقط من أجل الكهرباء والماء، بل من أجل استعادة معنى الدولة، من أجل الأمان والأمن الغذائي للأطفال، وكي لا تموت الحامل على باب المستشفى. هذا الحراك هو جرس إنذار صارخ بأن الشعب لم يعد يحتمل، وأن من لا يسمع صوت النساء لا يسمع صوت الحياة.