خديجة الجسري – نسوان فويس
في قرى اليمن النائية، حيث يلتقي الجفاف بندرة الفرص، تقف النساء الريفيات في الصف الأول لمواجهة تحديات تغير المناخ، لكن بأيدٍ تكاد تكون خالية من الدعم.
هنا، لا تُقاس آثار التغير المناخي فقط بدرجات الحرارة المتصاعدة أو الأمطار المتأخرة، بل بعدد الكيلومترات التي تقطعها النساء يوميًا بحثًا عن الماء، وبالأعباء الصحية والغذائية التي تثقل كاهلهن، وبالفرص التعليمية التي تُسلب من فتياتهن في صمت مطبق.
وسط بيئة زراعية آخذة في التدهور، تجد النساء أنفسهن يتحملن مسؤوليات مضاعفة داخل الأسرة والمجتمع، في ظل غياب البدائل الاقتصادية والدعم الحكومي الكفيل بتمكينهن. ومع ذلك، لا تغيب عن المشهد محاولات نسوية محلية للصمود والتكيف، عبر مبادرات صغيرة لكنها ملهمة.
نساء في مواجهة الجفاف
في أحد الأودية الجافة بمحافظة الضالع، كانت فاطمة مسعد تقف كل صباح أمام بقرتها الوحيدة، تراقبها بعينٍ ممتلئة بالأمل والخوف. كانت تلك البقرة مصدر لبن أطفالها الثلاثة، وقوتهم اليومي في قرية أنهكها الجفاف ومزقها تغيّر المناخ.
تقول فاطمة لمنصة “نسوان فويس”، وهي تمسح جبينها بكمّ عباءتها السوداء وقد تراكم عليه الغبار: “كنا نعيش على المطر… نزرع في الوادي ونسقي من الماء الجاري. لكن المطر انقطع، الوادي يبس، وماتت الماشية واحدة تلو الأخرى. البقرة الأخيرة بِعتها يوم بكى ابني من الجوع.”
تغير المناخ ضرب المناطق الريفية في الضالع بقوة، وخلّف موجات حر وجفاف غير مسبوقة. ومع غياب أي دعم حكومي أو مشاريع مستدامة، لم تجد عائلات مثل عائلة فاطمة بدًّا من الرحيل.
تركت فاطمة بيتها الطيني، ومزرعتها الصغيرة، ومضت مع زوجها وأطفالها إلى مدينة دمت، على أمل إيجاد فرصة للعيش. في المدينة، لم يكن الاستقرار سهلاً، لكنهم وجدوا ملاذًا مؤقتًا في غرفة صغيرة بإيجار شهري.
يعمل زوجها الآن في ورشة لإصلاح إطارات السيارات (بنشر)، بينما بدأت فاطمة تصنع أطباقًا تقليدية من الحشيش ومواد بسيطة. تبيعها في الأسواق الشعبية أو عبر نساء الجيران، تقول: “تعلّمت أصنع الأطباق من أمي، اليوم صارت هي مصدر رزقي… قطعة صغيرة أبيعها بثلاثة آلاف ريال، أشتري بها دقيقًا وحليبًا للعيال.”
ثمن الأزمة المناخية
تغيّر أنماط الأمطار خلال السنوات الأخيرة — إما تأخير طويل أو هطول كثيف مفاجئ يتسبب في جريان المياه دون أن تخزنها التربة — زاد من معاناة المجتمعات الريفية، وخاصة النساء والفتيات. فالمهام المنزلية التي كانت تتطلب ساعة واحدة يوميًا، أصبحت تستغرق نصف اليوم، وتُعيق تعليم الفتيات وتزيد من أعباء النساء.
منذ بدأت الأزمة المناخية تلقي بظلالها الثقيلة على الريف، لم تكن النساء فقط الأكثر تحملًا للعبء، بل كنّ أيضًا في مقدمة ضحاياه.
تقول الناشطة البيئية سلمى عبدالكريم: “في المناطق المتأثرة بالجفاف، نجد أن الفتيات أول من يُسحبن من المدارس لمساعدة أسرهن في جلب المياه أو الحطب، رغم أن التعليم هو أملهن الوحيد لمستقبل أفضل.”
تسير مرام ذات الـ15 عامًا يوميًا نحو وادي الأغوال في محافظة إب، على بُعد كيلومترين من منزل أسرتها، لجلب الماء لعائلتها.
لم تعد الفتاة تذهب إلى المدرسة، الجفاف أجبرها على استبدال القلم بالدلو، والصف الدراسي بمسار طويل محفوف بالمشقة والخطر.
“كنا نحصل على الماء من البئر القريبة، لكنها جفّت،” تقول والدتها لمنصة “نسوان فويس”، بينما تحاول حماية القليل مما تبقى من الماء في أوعية معدنية قديمة. “لم يعد لدينا خيار سوى إرسال مرام كل صباح، وأحيانًا مرتين في اليوم، إلى الوادي حيث ما تزال بعض البرك تحتفظ بالماء، وإن كان عكرًا.”
تحديات مركّبة
تقول الخبيرة في تغير المناخ الأستاذة دنيا كوكا لمنصة “نسوان فويس”: “تواجه النساء، وخاصة في المناطق الريفية، تحديات جوهرية تعيق قدرتهن على التكيّف مع التغيرات البيئية، وهذه التحديات لا تنفصل عن البنية الجندرية الاجتماعية والاقتصادية التي تفرض قيودًا وتفاقم من هشاشتهن.”
وتوضح كوكا أن ضعف الملكية والوصول إلى الموارد يمثل إحدى أبرز هذه التحديات، حيث تشير بيانات مؤسسة مبادرة مسار السلام (2024) إلى أن 90% من النساء الريفيات لا يمتلكن الأراضي التي يعملن عليها، ويعانين من نقص التمويل والدعم التقني.
أما على مستوى المشاركة المجتمعية، فإن التهميش في صنع القرار يشكل عائقًا إضافيًا، إذ تشارك أقل من 10% من النساء في المشاورات المحلية حول التكيف مع تغير المناخ، ما يؤدي إلى استبعاد احتياجاتهن وخبراتهن من السياسات. تقول كوكا
وتلفت كوكا إلى أن نقص التعليم والتدريب، لا سيما فيما يتعلق بالمعارف والتقنيات الزراعية المستدامة، يحد من قدرة النساء على تطوير استراتيجيات فعالة للتكيّف المناخي.
وتضيف: كما أن الأعباء المزدوجة التي تتحملها النساء، بين الأعمال المنزلية والزراعية، غالبًا دون تعويض أو دعم، تقلل من فرص مشاركتهن الفعّالة في الحياة المجتمعية.
وتواصل: ومن التحديات الحرجة أيضًا مخاطر العنف القائم على النوع الاجتماعي، التي تتفاقم في حالات النزوح بسبب الكوارث المناخية، كما حدث بعد إعصار “ماكونو” في المهرة، حيث واجهت النساء مخاطر متزايدة من العنف والتحرش.
وتشير إلى أنه لا يمكن إغفال أثر ضعف البنية التحتية والخدمات، مثل نقص المياه، وتدني خدمات الرعاية الصحية، وغياب شبكات الدعم، ما يزيد من هشاشة النساء في مواجهة الأزمات.
منبهة إلى أن الضغوط الاقتصادية الناتجة عن انخفاض الإنتاج الزراعي وتراجع الدخل، تترك أثرًا نفسيًا وماديًا بالغًا على النساء الريفيات.
جهود حكومية وشراكات دولية
من جانبه قال الدكتور مساعد أحمد القطيبي، وكيل قطاع التخطيط والمعلومات في وزارة الزراعة والري والثروة السمكية، لمنصة “نسوان فويس”، إن تأثيرات تغير المناخ في اليمن تُعد من بين الأخطر في المنطقة، نتيجة هشاشة البنية التحتية، وتدهور الموارد الطبيعية، واستمرار النزاعات.
وأضاف أن اليمن شهد في السنوات الأخيرة ظواهر مناخية متطرفة ومتكررة كالأعاصير، والسيول، والجفاف، مما أثر بشكل مباشر على الإنتاج الزراعي والأمن الغذائي وسبل العيش، خصوصًا في المناطق الريفية والساحلية.
وأشار القطيبي إلى أن النساء هن من أكثر الفئات تضررًا من التغير المناخي، بحكم دورهن الحيوي في الزراعة وتوفير الغذاء، في ظل محدودية وصولهن للموارد والدعم، ما يعمّق الفجوات الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بالنوع الاجتماعي.
وأكد القطيبي أن الحكومة أعدّت بالتعاون مع شركاء وطنيين ودوليين خططًا واستراتيجيات وطنية للتكيف مع تغير المناخ، تركز على دمج الاعتبارات البيئية في التنمية.
وبحسب القطيبي تلعب وزارة الزراعة دورًا محوريًا في تنفيذ هذه الخطط من خلال، دمج المناخ في استراتيجياتها الوطنية والقطاعية، مثل الاستراتيجية الوطنية للزراعة والأسماك (2024–2030) واستراتيجية الصحة الحيوانية (2025–2035)، ودعم المجتمعات الزراعية والريفية عبر مشاريع تعزز الصمود، بالإضافة إلى دعم الممارسات الزراعية المستدامة والزراعة الذكية مناخيًا، وكذا تمكين المرأة الريفية وتسهيل تبنيها لسبل عيش متكيفة مع التغيرات المناخية.
وأضاف أن هذه الجهود يتم تنفيذها بالتعاون مع شركاء التنمية من منظمات وصناديق دولية، مشيرًا إلى إنشاء وحدة مختصة بتغير المناخ والأمن الغذائي ضمن هيكل الوزارة، تعمل على التنسيق وتقديم التوصيات الفنية.
وعن أبرز التحديات، قال القطيبي إن الوزارة تواجه عدة معوقات، منها: شح التمويل المناخي، وضعف الوصول إلى موارد كالصندوق الأخضر وصندوق التكيف؛ ضعف القدرات المؤسسية والفنية في مجال تغير المناخ؛ غياب منظومة متكاملة لرصد وتحليل التغيرات المناخية؛ ضعف التنسيق بين الجهات الحكومية؛ والعوائق الاجتماعية والاقتصادية التي تحد من إشراك المرأة والفئات الضعيفة.
ورغم ذلك، أشار إلى أن الوزارة تعمل على تبني إصلاحات مؤسسية واستقطاب الدعم الدولي لتعزيز القدرات وتوسيع التدخلات.
وفيما يخص التعاون مع الجهات الدولية، أكد القطيبي أن الوزارة تولي هذا الجانب أهمية كبرى، مشيرًا إلى شراكات فعالة مع منظمات مثل: الفاو، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP)، الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (إيفاد)، الصندوق الأخضر للمناخ، وبرنامج الأغذية العالمي. وتُركز هذه الشراكات على تنفيذ مشاريع مقاومة للمناخ، تعزيز التكيف المجتمعي، تطوير نظم الإنذار المبكر، والأمن الغذائي والري. كما تعمل الوزارة حاليًا على إعداد مشاريع جديدة بتمويلات مناخية دولية مع التأكيد على مشاركة النساء والمجتمعات المحلية في مراحل التصميم والتنفيذ.
وفي ختام حديثه، شدد الدكتور القطيبي على أن مواجهة تغير المناخ تتطلب رؤية وطنية متكاملة وتعاونًا وثيقًا بين الدولة والمجتمع والمنظمات الدولية، مؤكدًا التزام الوزارة بدور ريادي يأخذ في الاعتبار الأبعاد الاجتماعية والبيئية، ويدعم التمكين الفعلي للمرأة في جميع مراحل الاستجابة المناخية.