إشراق العطاب – نسوان فويس
في عالم غالباً ما تُقاس فيه القدرات بالقوة الجسدية والامتيازات الاجتماعية، قلبت رحمة الوبري كل المفاهيم. بقصة مؤثرة من الإصرار، حولت رحمة إعاقتها إلى نقطة انطلاق نحو مشروع إنساني ومهني يضيء درب عشرات النساء في اليمن.
بداية الإلهام والإصرار
وُلدت رحمة في إحدى قرى محافظة ذمار، وقبل أن تُكمل عامها الأول، تعرضت لحادثة مأساوية عضّت فيها قطة ضالة أصابع يدها.
نُقلت رحمة على إثرها إلى أحد مستشفيات ذمار، حيث تقرر بتر كفّها الأيمن وجزء من أصابع كفّها الأيسر، لتكون تلك الحادثة بداية إعاقة دائمة.
وبينما كان الكثيرون يتوقعون لها حياة هامشية، كانت رحمة ترسم طريقها بنفسها خطوة بخطوة، متحدية الإعاقة ومصمّمة على التعلّم والنجاح.
درست رحمة وأتمّت المرحلتين الثانوية والجامعية، ثم انتقلت إلى صنعاء بحثاً عن فرصة عمل. و هناك، تغيّر كل شيء.
تروي رحمة: “سمعت عن دورة خياطة للمعاقات ولم أهتم كثيراً، لكن والدي أصر على إلحاقي بها. كنت خائفة: كيف سأخيط وأنا لا أستطيع استخدام يدي؟ كيف سأُدخل الإبرة أو أمسك المقص؟ لكنني خضت التجربة… ووقعت في حب الخياطة!”
تعلّمت رحمة الخياطة بصبر وإصرار، وشاركت في العديد من الدورات التدريبية، واستطاعت نيل شهادات تقديرية من جهات مختلفة، أثبتت فيها كفاءتها رغم كل العوائق الجسدية، والنفسية، والمجتمعية.
تحويل الصعوبات إلى مشروع حياة
بإصرار لا يلين، اشترت رحمة ماكينة خياطة مستعملة وبدأت بخياطة الملابس من منزلها. لفتت دقتها ومهارتها أنظار أهلها وجيرانها، حتى أن بعض النساء طلبن منها أن تُعلّمهن، ومن هنا لمعت الفكرة في عينيها.
لجأت رحمة إلى القروض واشترت أكثر من ماكينة، ثم بحثت عن مكان مناسب لفتح مشروعها. وبعد بحث طويل، عثرت على المكان المناسب القريب من منزلها في شارع المطار بصنعاء، وافتتحت معملها الخاص الذي أطلقت عليه اسم “معمل الإبداع والتميز للمعاقين”.
هدفت رحمة من خلال معملها إلى تعليم الخياطة للنساء المعاقات، والأرامل، والمطلقات، والمعيلات لأسرهن ممن حُرمن من فرص التعليم والعمل.
تقول رحمة: “في البداية، شعر أهلي بأن الفكرة كبيرة وتحتاج إلى مال، وأنا لا أمتلك المال الكافي لفتح المعمل، لكنني كنت مصممة على تحقيق هدفي فاقترضت مبالغ مالية كبيرة لا أزال أسددها حتى الآن!
واشتريت المكائن الخاصة بالعمل باختلاف أنواعها. بدأت بماكينة واحدة والآن أمتلك أكثر من 7 مكائن للخياطة والتنظيف والحياكة، وأضفت مؤخراً ماكينة خاصة بتركيب الأزرار. قمت بحث أخواتي في المنزل على الالتحاق بالدورات التي أقدمها في المعمل ونشرت عبر الأهل والأصدقاء، والحمد لله الآن لدي فريق متكامل قمت بتدريبهن ونعمل الآن على إنتاج قرابة 100 قطعة خلال أسبوع.”
تعبّر أم صابر، وهي أم لطفلين وعاملة في قطاع التعليم، عن إعجابها قائلة: “تعرفت على معمل رحمة من خلال صديقتي. طلبت منهم زياً مدرسياً لابني، وفوجئت بالدقة في الخياطة، وحين علمت أن المدربة رحمة الوبري – وهي معاقة – تأثرت كثيراً وشعرت أننا نُهمل كنوزاً فعالة داخل مجتمعنا.”
أما أم محمد، إحدى المتدربات في معمل رحمة، فتقول: “كنت أعيش في عزلة، بعد أن انفصلت عن زوجي ولدي ابن في الثالثة من عمره يحتاج لمصاريف، ولابد أن أبحث عن وسيلة كسب لتأمين احتياجاته. سمعت عن معمل رحمة من إحدى صديقاتي والتحقت به. تعلمت الخياطة واستمتعت جداً مع رحمة. أذهلتني كيف تقوم بالخياطة باحتراف وهي معاقة، وكذلك استمتعت مع بقية المتدربات وشعرت بأن لحياتي هدف، وأني وجدت عملاً أستطيع منه إعالة نفسي وابني.”
عرقلة الحلم وتُهديد الاستدامة
أنتج “معمل الإبداع والتميز” بقيادة رحمة مئات القطع لمدارس وشركات مختلفة بدقة ومهارة عالية تُحاكي منتجات السوق المحلي. ورغم النجاح الكبير الذي حققته رحمة، لا تزال التحديات والصعوبات عقبة في طريقها.
تقول رحمة: “واجهتني صعوبات عديدة منها ضعف العائد المالي، واعتماد المشروع على القروض، وضغط الزبائن من أصحاب الشركات لتقديم أسعار زهيدة لا تُغطي أحياناً حتى أجور العاملات.”
في هذا السياق، يقول الخبير الاقتصادي مصطفى نصر، رئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي، في حديثه لمنصة نسوان فويس: “يشهد اليمن بروز العديد من القصص الريادية الملهمة، حيث تسعى مبادرات فردية رائعة لتعزيز المشاريع الصغيرة، خاصة تلك التي تهدف إلى تمكين الأسر والخروج بها من دائرة الاعتماد على المساعدات الإنسانية نحو تحقيق مصادر دخل ذاتية. ورغم أهمية هذه الجهود، إلا أنها تعاني من التشتت وتُنفذ بمعزل عن إطار استراتيجي شامل، مما يُعيق نمو هذا القطاع الحيوي ويُضعف من استدامته.”
ويُشير نصر إلى أن هذه المبادرات، سواء كانت بدعم من منظمات دولية أو جهات محلية، تفتقر إلى استراتيجية متكاملة تهدف إلى تفعيل هذا النشاط واستيعاب مخرجاته. فالمشاريع الصغيرة، بطبيعتها، تعمل بهوامش ربح بسيطة، مما يحتم عليها الحصول على منظومة رعاية شاملة من قبل المؤسسات الرسمية. كما تحتاج هذه المشاريع إلى الاندماج ضمن المنظومة الاقتصادية الأوسع، لتصبح جزءاً لا يتجزأ من عملية إنتاجية شاملة تدعم التنمية وتُحقق عوائد مجزية للمستفيدين.
وبحسب نصر، تعاني العديد من هذه المشاريع من التعثر والتوقف بعد فترة قصيرة من انطلاقها. ويعزو ذلك بشكل رئيسي إلى غياب القيود على استيراد المنتجات الأجنبية، وعدم مراعاة طبيعة هذه الأنشطة الصغيرة والأعمال الحرفية المحلية، خصوصاً في قطاعات مثل الحياكة والخياطة.
ويُضيف: “هذا الافتقار لاستراتيجية واضحة لحماية ودعم المنتج المحلي يدفع المستهلكين نحو المنتجات المستوردة كبديل، مما يُقلص فرص بقاء ونمو المشاريع الوطنية.”
وعن التحديات الهيكلية والتشغيلية، قال نصر: “يواجه هذا القطاع تحديات هيكلية ولوجستية كبيرة. فعملية التمويل من قبل البنوك غالباً ما تكون صعبة لهذه الأنشطة. كما أن غياب الوعي الكافي بالإجراءات القانونية، وأساليب التسويق الفعالة، ومدى مواءمة المنتجات لاحتياجات السوق والعملاء، كلها عوامل تُعيق نشأة وتطور هذه المشاريع.”
مؤكداً بأن هذه التحديات تُؤثر بشكل مباشر على قدرة قطاع المشاريع الصغيرة على النمو والازدهار في اليمن، مما يُلقي بظلاله على جهود التنمية الاقتصادية الشاملة.
علامة تجارية
لا تزال رحمة تطمح إلى ما هو أكبر. تعمل اليوم على بناء علامة تجارية تحمل اسمها وبصمتها الخاصة، وتأمل أن تتمكن من التوسع، لتشمل مختلف الأسواق ليس فقط في صنعاء بل في مختلف المحافظات اليمنية.
تقول رحمة: “لا أريد أن أكون قصة نجاح فردية، بل بداية لحكايات نجاح كثيرة لنساء أخريات تخطين حاجز الخوف والفقر، وأتوق لفتح محلات خاصة بمنتجاتنا وعليها علامة تجارية تحمل اسم معمل الإبداع والتميز وعبارة صُنع في اليمن، وبإذن الله سأصل إلى ذلك.”
تختتم رحمة لقاءها مع “نسوان فويس” بعبارات ملهمة تُحفز النساء على المضي قدماً في تحقيق أحلامهن وتطلعاتهن مهما كانت الصعوبات: “رسالتي في الأخير إلى كل امرأة تشعر أنها عاجزة أو ضعيفة: أنتِ قادرة. فقدت كفّي في الطفولة، لكنني اليوم أقود فريقاً من النساء القويات والمبدعات. الإعاقة لا تعني النهاية، بل هي في الحقيقة بداية الإصرار وتحقيق الذات. حرري نفسكِ من نظرة المجتمع، وانطلقي بعزيمة وثبات.”