زيجات بلا استقرار.. حين يتحول الزواج إلى صفقة مؤقتة في اليمن

شارك المقال

أشجان بجاش – نسوان فويس

كانت غيداء حافظ، ابنة الواحدة والعشرين، تمشي بحذر بين الأرصفة، تبحث عن العلب البلاستيكية بيديها اللتين خَشِنَتا قبل الأوان، متقاسمةً التعب مع أسرتها التي مزّقتها الحاجة وجفّف الفقر ضحكاتها. لم تكن غيداء تحلم بالكثير—فقط بحياة لا تطاردها فيها نظرات الجوع أو الشفقة. وحين طرق بابهم رجل ثري يكبرها بسبعة عشر عامًا، تعلقت العائلة بخيط أمل رفيع: “ربما ينقذنا هذا الزواج من الفقر.”

لكن الأمل الذي تشبّثوا به انكسر بسرعة، كما تُكسر قلوب الفقراء دون أن يشعر بهم أحد. لم تكد تمضي خمسة أشهر على زواجها حتى غادرها دون وداع، تاركًا خلفه وعدًا كاذبًا وحلمًا مكسورًا. بصوت خافت وعيون مليئة بالخذلان، قالت غيداء: “أملنا أن يخرجنا من الفقر، لكنه تركني بعد خمسة أشهر فقط.”

 صفقات مؤقتة تُهدد الفتيات

في مجتمعٍ أثقلته سنوات الحرب والفقر، وأمام انهيار اقتصادي خانق، أصبحت بعض الزيجات في اليمن تتحول من علاقة إنسانية مقدسة إلى صفقات تجارية مؤقتة، لا هدف لها سوى تحقيق مكاسب مادية. غالبًا ما تكون هذه الصفقات على حساب فتيات في مقتبل العمر، وقعن فريسة سهلة لعوز أسرهن وطمع بعض الرجال.

تروي سمية القليسي، 29 عامًا، تجربتها مع الزواج الذي ظنّت أنه سيكون بداية جديدة لها بعد معاناة طويلة من الفقر. تقول بألم: “تزوجت من رجل أربعيني ومستقر ماديًا، حلمت بالاستقرار، لكنه طلقني بعد عام وشهر فقط، دون سبب واضح، وكأنني لم أكن شيئًا.”

في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية، تحولت بعض الزيجات إلى ما يشبه “الصفقات التجارية”، حيث يُقدم الرجل على الزواج من فتاة مقابل مبلغ مالي أو وعود بتحسين وضع الأسرة، ثم يطلقها بعد شهور قليلة، وربما أيام، دون مساءلة.

أبعاد قانونية ضائعة ومخاطر متزايدة

حول ذلك، تقول المحامية والمدافعة عن حقوق الإنسان مارينا كمال إن ظاهرة تزويج الفتيات القاصرات آخذة في الانتشار، لا سيما بين الفتيات صغيرات السن وذوات التعليم المتوسط أو المنعدم. وأرجعت كمال هذا التصاعد إلى تداعيات الحرب المستمرة والأزمة الاقتصادية الخانقة التي أرهقت كاهل الأسر، ما دفع أولياء الأمور إلى تزويج بناتهم بأي وسيلة كانت، رغم إدراكهم التام للمخاطر المترتبة على هذا النوع من الزواج. وأضافت أن بعض العائلات باتت تنظر إلى تزويج الفتاة على أنه “طوق نجاة” يُخفف من الأعباء المعيشية، دون اعتبار للعواقب المحتملة مثل الطلاق أو التخلي عن الفتاة بعد فترة قصيرة من الزواج.

يؤكد الناشط الحقوقي معتز الشرجبي أن هذه الظاهرة تنمو في غياب قوانين رادعة وآليات فعالة تحمي الفتيات من هذا النوع من الاستغلال. ويضيف: “الزواج السياحي، والزواج المؤقت، وحتى ما يسمى بزواج النية السيئة، كلها أشكال من الانتهاك المقنَّن، بسبب غياب قوانين صارمة تحاسب من يستغل الفتيات، خاصة في ظل الحرب وتعدد السلطات.” ويشير إلى أن منظمات المجتمع المدني تبذل جهدًا، لكن ضعف الإمكانيات وصعوبة الوصول للمناطق المتضررة يحدّ من تأثيرها.

الفقر العامل الحاسم والحلول المقترحة

يرى أستاذ علم الاجتماع والباحث في مركز الدراسات والبحوث اليمني بصنعاء، عبد الكريم غانم، أن الفقر هو العامل الأكثر تأثيرًا في توسع هذه الظاهرة. “الأسرة ترى في الفتاة مشروعًا للزواج، لا للتعليم أو التمكين، وغالبًا ما تكون قاصرة لا تملك القرار.” ويضيف غانم: “تراجع التعليم، وانخفاض القدرة على تحمل تكاليفه، وقلة فرص العمل، دفعت الأسر للتفكير بالزواج كمصدر للنجاة، بغض النظر عن نوعية الزوج أو استقرار الزواج.”

ويؤكد غانم على ضرورة وضع معايير لعقود الزواج، كاشتراط حصول الفتاة على بطاقة شخصية أو شهادة دراسية، والتأكد من أهليّة الزوج سلوكًا ودخلًا واستقرارًا. وتُشير تقارير الأمم المتحدة إلى أن خسائر اليمن الاقتصادية جراء الحرب تجاوزت 90 مليار دولار، وحُرم أكثر من 600 ألف شخص من مصدر رزقهم، فيما يعيش حوالي 58% من السكان تحت خط الفقر.

دور الإعلام والمجتمع

ترى المحامية مارينا كمال أن تفعيل دور الإعلام بشكل أقوى أمر بالغ الأهمية، عبر التوعية وبرامج تسلط الضوء على مخاطر الزواج المبكر والمؤقت، إلى جانب دعم الفتيات بمشاريع اقتصادية تضمن لهن استقلالية مادية. وتؤكد على ضرورة محاسبة الوسطاء المعروفين باسم “الخطّابات”، الذين يتاجرون بحياة الفتيات تحت غطاء الزواج، مطالبة الجهات الرسمية بإغلاق شبكاتهم ومنع ترويج مثل هذه الزيجات عبر وسائل التواصل.

الأمل في التمكين

تقول غيداء (21 عامًا)، بعد أن تركها زوجها: “لم تكن الخيبة فقط في فشل الزواج، بل في شعورها بأنها بدون شيء يحميها من تكرار السقوط.” وفي لحظة تأمل بين أطلال التجربة، قررت غيداء أن تبني حياتها بيديها. بدأت رحلة التعلم من الصفر، التحقت بمركز لتعلم الحاسوب، وسرعان ما تحولت إلى واحدة من أنشط الطالبات. تعلمت أساسيات الحاسوب، الطباعة، تنسيق الملفات، واستخدام البريد الإلكتروني. وتضيف غيداء: “أعمل اليوم معلمة حاسوب في إحدى المدارس الخاصة للصفوف الابتدائية، وأكسب دخلًا بسيطًا لكنه يساعد ولو قليلاً.” وتتابع بحماس: “إن طموحها لم يعد له سقف، وتطمح أكثر لتصبح مصممة بطاقات كدعوات الزفاف وغيره.”

وفي ختام حديثها، توجه غيداء نصيحة للفتيات: “تعلّمي، حاولي، مارسي شيئًا تحبينه وتعلمي شيئًا جديدًا أو ابدئي مشروعًا خاصًا بكِ. لا تنتظري من ينقذكِ، أنقذي نفسكِ بنفسكِ.”

وحول ذلك، يرى الشرجبي أن الحل يبدأ من التمكين الاقتصادي للأسر، وتوسيع شبكة الضمان الاجتماعي، وتوفير فرص عمل تقلل من الاعتماد على “زواج الإنقاذ”. ويضيف: “علينا أن نوقف هذه الظاهرة من جذورها، لا أن نلاحقها بعد وقوع الكارثة.”

ويُنهي أستاذ علم الاجتماع والباحث في مركز الدراسات والبحوث اليمني بصنعاء، عبد الكريم غانم، حديثه بالتأكيد على أن تحسين الأوضاع المعيشية للأسر يعد ضرورة ملحة لتوسيع خياراتها بشأن زواج الفتيات، بعيدًا عن الاضطرار إلى قبول زيجات قد تفتقر لمقومات الاستمرار. ويضيف أهمية تفعيل شبكات الضمان الاجتماعي، وتوفير فرص العمل، وتعزيز مظاهر التكافل داخل العائلة والعشيرة والقبيلة والمجتمع بشكل عام، محذرًا من أن قسوة الظروف الاقتصادية قد تدفع بعض الأسر إلى التعامل مع الفتاة كسلعة تنتظر أول مشترٍ، بغض النظر عن شخصه أو ظروفه.

 

مقالات اخرى