مرفت الربيعي
يُعد البلاستيك، بتعدد استخداماته اليومية، خطرًا متصاعدًا يهدد البيئة في اليمن، حيث يتفاقم التلوث مع غياب آليات التخلص السليم منه.
فمن مخلفات القرطاسية المتناثرة في الشوارع إلى أطنان النفايات المتراكمة، وصولًا إلى الاستخدام المفرط في تغليف الأطعمة، يُلحق هذا الانتشار الواسع ضررًا بالغًا بالتربة والمياه وصحة الإنسان.
خير مثال على ذلك قرية الكود بمحافظة أبين جنوب اليمن، التي رزحت تحت وطأة تلوث بيئي كارثي بسبب حرق البلاستيك، محولًا إياها إلى بؤرة للأمراض السرطانية.
إزاء هذه المخاطر البيئية المحدقة، أطلقت جمعية البركة التنموية مبادرة واعدة تحت شعار “الخزف من أجل بيئة آمنة”.
تهدف المبادرة إلى إنتاج سلال يدوية الصنع من سعف النخيل كبديل مستدام للأواني البلاستيكية، سعيًا لحماية البيئة وتقليل التلوث، وتعزيز الوعي البيئي للحفاظ على الموارد الطبيعية.
تقود هذه الجهود الملهمة إلهام الشيبة، رئيسة جمعية البركة التنموية، التي أوضحت لنسوان فويس: “دربنا 24 امرأة على حرفة صناعة منتجات خزفية صديقة للبيئة، شملت السلال والجِعاب وسُفر الطعام، بالإضافة إلى تدريبهن على آليات التسويق والبيع في المتاجر. وقد حظي مشروعنا بتقدير منظمة أمديست واعتبر من أفضل المشاريع.”
وأضافت بفخر: “اليوم، نشاهد منتجاتنا تزين المنازل والأسواق، حاملة رسائل بيئية واجتماعية قوية تعكس قدرة التغيير.”
التغيير يبدأ من الوعي:
لم تقتصر جهود المبادرة على الإنتاج فحسب، بل شملت حملات توعية مكثفة للمواطنين، أحدثت تحولًا ملحوظًا في الحد من التلوث.
يتحدث حلمي عبدالله، مدير إدارة التوعية والإعلام البيئي بأبين، لنسوان فويس عن هذا الأثر قائلًا: “عمل مكتب المحافظة بالشراكة مع فريق المبادرة على تشجيع المتدربات لتوعية المجتمع بأهمية استخدام سلال الخزف والتخلي عن البلاستيك. وقد لمسنا تفاعلًا كبيرًا من جمعيات أخرى لتبني مشاريع مماثلة، ونجحنا في القضاء على تكدس البلاستيك الذي كان يشكل خطرًا بيئيًا جسيمًا على القرية.”
تشرح أنيسة محمد، المديرة التنفيذية لجمعية البركة التنموية، لنسوان فويس، مراحل إنتاج هذه التحف اليدوية، بدءًا من الجلسات التعريفية وحملات التوعية والنظافة، مرورًا بجلب سعف النخيل من أسواق أبين وعدن ونقعه في الماء لساعات، وصولًا إلى عملية “السف” وتشكيله المبدع إلى قوالب متنوعة وتزيينها بالقماش أو مواد أخرى.
وتضيف: “هناك نوع آخر يتميز بإضافة الألوان أثناء النقع، مما يمنحها جمالًا فريدًا ويغنيها عن الزينة الإضافية. تُترك المنتجات لتثبيت الألوان ثم تُسف وتُعرض للبيع في المعارض والأسواق.”
إحدى المتدربات عبّرت عن الأثر الإيجابي للمبادرة على حياتهن قائلة: “ساهمت المبادرة في تحسين أوضاعنا الاقتصادية بشكل كبير، حيث تؤمن لنا دخلًا مستدامًا من بيع منتجاتنا في الأسواق والمعارض، وحققنا بذلك استقلالًا ماليًا.”
في هذا السياق، أكد البرفسور في هيئة المساحة الجيولوجية وهيئة الموارد المعدنية محمد متاش، على ضرورة تشجيع الصناعات اليدوية الصديقة للبيئة، مثل الأكياس الورقية والمعدنية والخصوصية والخزفية والمنتجات الجلدية، وإحيائها ودعمها أسوة بدول العالم.
البلاستيك.. الضرر الصامت:
وبحسب تقديرات فريق النزول الميداني والتفتيش البيئي التابع للهيئة العامة لحماية البيئة، يستهلك اليمنيون حوالي 150 مليون كيس بلاستيكي يوميًا، أي ما يعادل 54 مليار كيس سنويًا، مما يؤدي إلى تراكم هائل للنفايات البلاستيكية التي تدار بشكل سيئ، مع غياب حلول فعالة لمعالجتها.
و يستغرق البلاستيك مئات السنين للتحلل، ويطلق مواد كيميائية سامة تتسرب إلى التربة والمياه، مسببة مواد مسرطنة للكائنات الحية.
ويحذر الدكتور وسيم علي، أخصائي الفسيولوجيا الطبية، من خطر وضع الأطعمة على البلاستيك، لما له من تأثير ضار على الهرمونات.
وعند حرقه، يطلق البلاستيك مواد سامة تسبب السرطان والتشوهات الخلقية وتزيد من فرص الإجهاض وتخفض مستويات هرمون التستوستيرون وتضعف الجهاز المناعي وتؤدي إلى اضطرابات الغدد الصماء.
ويوضح البروفيسور متاش أن التلوث البلاستيكي يتسبب أيضًا في أضرار بيئية بحرية ويعيق التنمية الاقتصادية ويقلل من عائدات السياحة ويؤثر على البنية التحتية للشحن والتفريغ ويلوث المياه الجوفية ويخفض الإنتاج الزراعي وتربية الأحياء المائية.
الخزف.. للحد من الأضرار:
بإصرار وحب، تقود إلهام الشيبة هذه التجربة الرائدة لمواجهة التهديدات البيئية، مستخدمة أدوات تقليدية كانت رمزًا للريف اليمني، وتحويلها إلى بديل قوي للبلاستيك، مثل سعف النخيل والألوان الطبيعية والقماش وغيرها.
وتحرص على تسويق هذه المنتجات الصديقة للبيئة من خلال المعارض والبازارات والتواصل مع مختلف شرائح المجتمع، بالإضافة إلى التعاون مع الهيئة العامة للحفاظ على البيئة بالمحافظة لتشجيع استخدامها.
وتضيف: “كانت قرية الكود بأمس الحاجة لمثل هذه المبادرات التي تساهم في تقليل المخاطر البيئية.”
وقد أشاد الكثيرون بهذه المبادرة المبتكرة التي تساهم في الحد من التلوث البلاستيكي وتعزز الاستدامة. واليوم، عند التجول في قرية الكود، لم تعد أكوام النفايات والمواد البلاستيكية مشهدًا مألوفًا، بل تظهر لمسات نسائية نسجت بحب وتفانٍ لحماية المجتمع من كارثة التلوث البيئي.
وبدأت الأكياس البلاستيكية المتراكمة تتلاشى تدريجيًا، وتجاوزت المبادرة نطاقها الضيق لتنتشر في مديريات أخرى، وصولًا إلى محافظات مثل عدن، مما شكل تحديًا إضافيًا في زيادة الإنتاج في ظل ارتفاع الأسعار. وبين هذا وذاك، تواصل المبادرة جهودها الدؤوبة، كما أوضحت الشيبة.
اعتدال مهدي، إحدى المعجبات بالمبادرة، ترى أن الفكرة تخدم المجتمع بشكل كبير، وقد اعتمدتها في شراء احتياجاتها المنزلية، وتنصح الجميع باستخدامها لتجنب الأمراض السرطانية.
تواجه المبادرة تحديات كبيرة بسبب ارتفاع أسعار المواد الخام وقلة الدعم الحكومي. تقول الشيبة: “إن الدور الحكومي في مشاريع حماية البيئة شبه غائب، ولا تجد المبادرات أي دعم أو اهتمام من الجهات الرسمية. ويعود الفضل إلى منظمة أمديست التي قدمت لنا الدعم، ونأمل أن تحظى المبادرات البيئية باهتمام أكبر من الحكومة في المستقبل.”
وتختتم الشيبة حديثها بالتأكيد على سعيهن للمشاركة في معارض دولية، على أمل أن يحذو الجميع خطوات مماثلة للحفاظ على البيئة، مؤمنة بأن هذه المبادرة تساهم في توفير فرص عمل للمزيد من النساء واستقبال طلبات من مختلف المحافظات لإنتاج المزيد من السلال الخزفية.
إن مبادرة “الخزف من أجل بيئة آمنة” تمثل خطوة رائدة نحو التغيير البيئي الإيجابي، وتستحق كل الدعم والتكاتف، كونها تجسد صورة مصغرة لتلاحم المجتمع في سبيل الحفاظ على بيئته.