ياسمين الصلوي- نسوان فويس
قبل أكثر من ثلاثة عشر عامًا، زارت أم هديل والدتها في تعز، ولم تكن تعلم أنها ستكون المرة الأخيرة. أم هديل أرملة تكافح لإعالة أطفالها الأربعة، بينهم طفل معاق، تعمل في مؤسسة حكومية بصنعاء، لكنها لم تعد تتلقى راتبها، ما جعلها عاجزة عن تأمين نفقات السفر.
تقول بحسرة “عندما زرت أهلي آخر مرة، أدركت أنني لن أستطيع القيام بذلك مجددًا، أصبح الطريق أكثر وعورة، والتكلفة مرتفعة جدًا، وأطفالي لم يعودوا قادرين على تحمل المشقة.
وتضيف “أهلي يتفهمون وضعي، فنكتفي بالتواصل عبر الهاتف والرسائل الصوتية على الواتساب، وننتظر أن يفرجها الله.”
حال أم هديل ليس استثناءً، بل هو صورة مصغّرة لواقع آلاف النساء اليمنيات اللواتي تقطعت بهن السبل، وحرمن من أبسط حقوقهن في رؤية أحبائهن بسبب إغلاق الطرق والغلاء الفاحش.
لم يكن السفر بين المدن اليمنية يومًا معضلة كما هو اليوم. فبعد سنوات من الصراع، باتت النساء أكثر الفئات تضررًا من إغلاق الطرق وارتفاع تكاليف التنقل، حتى تحوّلت زيارة الأسرة إلى حلم صعب المنال.
بين الظروف الاقتصادية القاسية، والخوف من المخاطر الأمنية، وفرض شروط مثل وجود محرم، تجد الكثير من اليمنيات أنفسهن عالقات في عزلة قسرية عن أهلهن، وكأنهن في وطن غريب.
من ساعات إلى أيام
لطيفة عبدالحفيظ لم ترى أهلها في الحديدة منذ ست سنوات، رغم أنها كانت تزورهم سنويًا قبل عام 2015.
لطيفة تعيش في محافظة شبوة، حيث يعمل زوجها معلمًا في مدرسة حكومية، براتب لا يتجاوز 45 دولارًا، بالكاد يكفي لتوفير احتياجات الأسرة الأساسية، فما بالك بتكاليف السفر؟
تقول لطيفة “لم أتخيل أنني سأعيش في وطن واحد دون أن أتمكن من رؤية أهلي، أشتاق لاحتضان أمي وأبي، والتواصل عبر الهاتف لا يعوض ذلك، الحرب حرمتنا من أبسط حقوقنا، وأصبح السفر مخاطرة مكلفة لا يمكننا تحملها.”
وتشير بإن قبل الحرب، كانت رحلتها إلى الحديدة تستغرق أقل من يوم، إذ كانت تغادر صباحًا وتصل ظهرًا، لكن اليوم، يحتاج السفر إلى يومين من المشقة والخطر.
وتؤكد بإن كل رحلة تعني مواجهة الموت على الطريق، نقاط تفتيش، طرق وعرة، مسافات طويلة، وتكاليف باهظة تجعلنا نتراجع عن مجرد التفكير في السفر.”
تمزيق الروابط الأسرية
تؤكد المستشارة الأسرية أسماء الصلاحي أن إغلاق الطرقات ساهم في تفكك الروابط الأسرية بشكل غير مسبوق حيث أن أطفال لا يعرفون أعمامهم أو أخوالهم، ونساء لم يعد بإمكانهن رؤية أهلهن إلا عبر الشاشات، مما جعل الحنين يتحوّل إلى ألم صامت.
وتضيف بإن التكلفة لم تعد مادية فقط، بل عاطفية ونفسية. مع مرور الوقت، بدأت تتلاشى صور الأقارب من ذاكرة الكثيرين، وبتنا نشهد تراجعًا في العلاقات الأسرية التي كانت قوية في السابق.”
ومن جانبه يرى الدكتور جمهور الحميدي، أستاذ علم النفس في جامعة تعز، أن المسافات التي كانت تُقطع خلال ساعات، باتت اليوم تحتاج أيامًا، مما أدى إلى عزلة اجتماعية قسرية.
ويوضح الحميدي إن عدم قدرة النساء على السفر لرؤية أسرهن أدى إلى تفاقم مشكلات نفسية واجتماعية، خاصة مع الخوف من السفر بمفردهن أو عدم توفر المال الكافي لذلك، مشيراً أن هذه العزلة تؤثر بشكل عميق على الصحة النفسية، وتجعل النساء يشعرن بأنهن محاصرات داخل وطنهن.”
تكاليف تفوق القدرة
في الحديدة، تعيش أم محمد تجربة مماثلة، فمنذ أكثر من سبع سنوات، لم تتمكن من زيارة أهلها في ريف تعز بسبب ارتفاع تكاليف النقل، والتي باتت تتطلب ميزانية تفوق إمكانيات أسرتها الفقيرة.
تقول “قبل الحرب، كنت أسافر من الحديدة إلى تعز بخمسة آلاف ريال فقط، وأصل في وقت الظهر، أما اليوم فالسفر يحتاج أكثر من 17 ساعة، والمبلغ المطلوب لا يقل عن 200 ريال سعودي للذهاب فقط.
وتتساءل” كيف لي أن أوفر كل هذا المال؟ وإن سافرت مع زوجي وأطفالي، فكم سأحتاج؟ “ازدادت معاناة أم محمد عندما أصيبت والدتها بالسرطان، ولم تستطع حتى توديعها.
تقول بحسرة “اشتقت لها كثيرًا، لكني كنت عاجزة عن الذهاب إليها. الحرب لم تسرق منا فقط الأمان، بل سرقت حتى قدرتنا على قول وداعًا.
بؤس غير مرئي
الاقتصادي نبيل الشرعبي أن الحرب في اليمن لم تترك جانبًا إلا وأثرت عليه، لكن أحد أخطر تداعياتها هو “البؤس غير المرئي”، مثل العجز عن لقاء الأحبة، الذي يفوق أحيانًا ألم الفقر نفسه.
وأشار إلى أن عدم القدرة على السفر بسبب الظروف المادية وإغلاق الطرقات تسبّب في تفاقم الشعور بالعزلة والانكسار النفسي، خاصة لدى النساء اللواتي بلا معيل أو مصدر دخل، وهذا الشعور بالعجز ليس مجرد حالة مؤقتة، بل يترك ندوبًا دائمة في الروح.
في عام 2022، دعت الأمم المتحدة إلى فتح الطرق الرئيسية في اليمن لتخفيف معاناة المواطنين، وتم اقتراح فتح أربع طرق في تعز كمرحلة أولى، ثم فتح الطرق الرئيسية في الحديدة، البيضاء، مأرب، الضالع، والجوف.
لكن رغم هذه الجهود، لا تزال الطرق مغلقة، والمعاناة مستمرة، والنساء اليمنيات عالقات في سجون غير مرئية، تحيطهن جدران من الفقر والخوف والحرمان.