زهور السعيدي _ نسوان فويس
جسدها الهزيل لم يمنع صوتها الشاحب من اختراق ضجيج هائل يصدر عن مئات المتسوقين من صيادي وباعة ورواد مركز الإنزال السمكي الأكبر في الحديدة.. تلوّح بسكينها إلى زبائنها للظفر بشيء من أسماكهم لتقطيعها ببراعة واحترافية عالية مقابل الحصول على مبلغ من المال ليعينها على مواجهة أعباء الحياة.
السيدة فطوم صالح التي تعرف بين أوساط صيادي وتجار الأسماك في “محوات” مدينة الحديدة باسم “الزبيدية” باتت وفق وكلاء صيادين في المنطقة من أهم مزاولي مهنة تقطيع الأسماك والتي ظلت لعقود طويلة مهنة حصرية على الذكور، لما تتطلبه من قوة بدنية وقدرة عالية على احتمال ضجيج وازدحام أماكن بيع وشراء الأسماك.
تتخذ الزبيدية وهي في العقد الرابع من العمر وأم لخمسة أطفال ركنا جيدا من الهنجر الرئيس بمركز الإنزال وعلى مقربة من عملية بيع السمك التي يطلقون عليها “التحريج” وذلك يهيئ الفرصة أمامها كما تقول للحصول على فرصة أكبر لتقديم خدماتها لعدد واسع من الناس بمن فيهم تجار الأسماك الذين يشترون كميات كبيرة ويقومون بتنظيفها من الأحشاء وتهيئة بعضها للشواء وأخرى للتقطيع قبل توزيعها على المطاعم.
توضح الزبيدية أنها أخذت سر المهنة من والدها الراحل الذي فارق الحياة قبل خمس سنوات ولم تجد مجالاً آخر لكسب لقمة العيش إلا انتهاج درب لم تسلكه النساء من قبل.
وتضيف: كنت أرافق والدي حين كنت طفلة إلى “المحوات” وكنت اساعده في عملية “تقريش” بعض أنواع الأسماك ذات القشور والحراشف مثل “الجحش” أو إخراج أمعاء بعض الأسماك الصغيرة على غرار السردين أو ما يسميها الصيادون وأهل المنطقة “الباغة”.
وتشير في حديثها لـ( نسوان فويس) إلى أنها لطالما كانت شغوفة بهذه المهنة منذ الصغر وكانت تتابع أداء والدها بشغف وتطلع للتعلم حتى أنها تعلمت طرق التقطيع لكل أنواع الأسماك إذ أن لكل صنف طريقة معينة وكذلك الأحياء البحرية الأخرى مثل الحبار والشروخ بمختلف أنواعها.
القرار الجريء
كان قرار التحاقها بالمهنة صعبا و معقدا في البداية وتؤكد رغم الشغف بالمهنة وأنا صغيرة وجدت العودة إليها بعد مرور عقود من التجربة الأولى أمرًا عسيرًا فهذا النوع من المهن حكر على الرجال ولم يسبق أن عملت فيها امرأة حتى الوالدة المريضة والزوج العاجز عن العمل أبديا اعتراضا خجولا على هذا التوجه في البداية.
ومع اشتداد الأزمة الاقتصادية في البلاد وانحسار فرص العمل وبدأنا كما تقول “نشعر بالجوع يغزو الأسرة و مع تفاقم مرض أمي وإصابتها بالضغط والسكر واحتياجها المتواصل للعلاج كان القرار الحاسم الذي شكل نقلة نوعية في حياتنا البسيطة”
الزبيدية وصلت إلى قناعة بأن المرأة قادرة على مزاولة كل الأعمال وإن بدا بعضه وكأنه حكر على الرجال ومنها بطبيعة الحال مهنتها في مزاولة تقطيع الأسماك الذي يعود صعوبته إلى الأجواء المحيطة بالمهنة إذ يضطرك العمل كما توضح إلى الاختلاط بأنواع غريبة من السلوكيات البشرية.
ناهيك عن الانتقادات و عبارات الازدراء والاستهجان التي يرددها البعض و خصوصا من قبل أصحاب المهنة من الرجال والتي كانت على أشدها في بداية الأمر لكنها أخذت في التلاشي تدريجيا مع مرور الوقت خصوصا مع استعادة مهارتها القديمة في التقطيع سريعاً وتعاملها كما تقول بكل صرامة وحزم مع تلك الممارسات.
ملهمة للأخريات
القوة و الإصرار والتحدي الذي تحلت به الزبيدية كان كما يقول وكيل الأسماك المعروف بمركز الإنزال السمكي بسام حمود السر في نجاحها واكتسابها إحترام وتقدير كل من تعامل معها من الوكلاء والباعة للأسماك في المنطقة وهم كثر وقد وصلوا إلى قناعة كبيرة بأدائها ومستوى عملها المميز الذي يفوق في جودته أداء كثير من الرجال.
ويضيف حمود: نجاح الزبيدية كان ملموسا وصار زبائنها في ازدياد مضطرد وكل ذلك شجع فتيات أخريات لأن يحذين حذوها وصار مركز الإنزال و التسويق السمكي في الحديدة حالياً يضم خمس فتيات ممن يقمن بتقطيع الأسماك وإن لم يكنّ بنفس كفاءتها إلا أنهن يسرن على درب النجاح ذاته وقد إتخذن الزبيدية وصلابتها القوية مصدر إلهام لمهنتهن وأدائهن الواعد..
ويقول محمد البرعي وهو أحد زبائن الزبيدية وتاجر أسماك في المكان بأنه لا يمكن أن يلجأ إلى غير الزبيدية فطريقة تعاملها مع عملائها مميزة جداً وتبدي الكثير من المرونة وروح الفكاهة أثناء قيامها بعملها ما جعلها مفضلة لكثير من مرتادي “محوات “الحديدة الأكبر.
ويضيف البرعي في حديثه لنسوان فويس أن السيدة فطوم هي من أوائل النساء التي عملت في تقطيع الأسماك وكانت الوحيدة قبل أن تأتي أخريات للعمل بالتقطيع وأنها تتقاضى مبلغ يتراوح ما بين الثلاثة مئة والخمس مئة، على كل سمكة تقطعها تزيد وتنقص على حسب الاحجام وأنواعها.
وتقول الاخصائية الاجتماعية وردة وهيب لـ” نسوان فويس” إن قصة السيدة فطوم هي قصة نضال وتحدي مع الحياة فهي لم تخضع لصعوبة الحياة بل قاومت بكل جهد وأوجدت لنفسها عملا تعتاش منه، حتى وإن كان حكراً على الرجال، إلا أنها أبدت نجاحاً باهراً لتكون ملهمة لغيرها من النساء في الوقوف بصلابة أمام كل مستحيل حيث أصبحت مثالًا على الاستقلالية والقوة وبهذا يمكن للمرأة النجاح بأي عمل تريده، إن وجدت الإرادة.