خديجة الجسري-نسوان فويس
صرخت صرخةً هزت الكون: “إلى أي المقابر سأساق؟! إبراهيم يريد أن يقتلني”. كانت هذه آخر كلماتها قبل أن تفارق الحياة إثر جلطة دماغية بعد وسواس قهري صاحبها من بعد زواجها بشهور.
كانت مها (اسم مستعار) تعد كلمة حفل الخريجات لطالبات الصف الثالث الثانوي، وكان عمها يراقبها عن كثب ويهمس في أذن والدها: “كبرت مها وازدادت جمالاً وبهاءً وصارت جاهزة للزواج”. لكن والدها قال له: “تريد أن تدخل كلية الطب”. العم الكبير: “ما هذا الكلام يا محمد؟ من متى عندنا البنات يدخلن الجامعات؟ حضرت الحفل لأن إبراهيم ولدي وصاني أحضر لأجلها فهي خطيبته”. قالها بحزم وحسم. رد والدها: “يصير خير عندما يرجع إبراهيم من المدينة ويكمل تعليمه”. لكن العم وشيخ القبيلة قال: “إبراهيم معه آخر شهرين وراح نفرح بهم عن قريب. جهزوا أنفسكم، الخطوبة الخميس القادم”.
زواج بقوة السلاح
محمد المقرمي لمنصة “نسوان فويس” يحكي قصة عن فتاة من حيث تُكسر القلوب ولا تُكسر كلمة رجال القبائل. مها كان حلمها أن تكون طبيبة. يقول المقرمي: “لكن بقوة العنف وتهديد السلاح خطبوها وأملكوها لابن عمها خريج الحقوق الذي لا يعلم من الحق شيئًا. زُفَّت عروسًا إلى بيته مخضبة بدموعها مكسية بآهاتها، وهو يعلم رفضها، لكن حاول أن يرضي أنانيته وأن لا يأخذ الفتاة الجميلة الذكية غيره”. يواصل المقرمي القصة الموجعة: “تأقلمت مها مع الحياة الجديدة، لكن زوجها ظل يعاتبها على رفضها إياه ويهددها بزوجة جديدة، فأصيبت بالاكتئاب والوسواس القهري. كانت تتخيل أن زوجها إبراهيم يريد أن يقتلها طعنًا بالخنجر، فتهرب إلى بيت أبيها. لكن هذا لم يمنع معاملته السيئة لها حتى حاولت الانتحار عدة مرات.
حملت مها وأنجبت بنتًا. تذمر منها لماذا أنجبت بنتًا، وعندما طلبت أن تستخدم منع الحمل للترتيب بين الأولاد رفض وعاملها بعنف. وهكذا أنجبت الثاني والثالث. وبعد عشر سنوات من زواجهما، خطب إبراهيم امرأة أخرى. مها ازداد فيها المرض، دماغها لم يتحمل كل هذا فماتت بجلطة دماغية ليبكيها معلموها وزميلاتها كرواية دموع في سفوح القهر.
الرفض يعني العار
في ذلك المساء الهادئ، حين كانت الشمس تغرق في الأفق البعيد، وتحمر السماء بلون الحزن السحيق، جلست أنغام في غرفتها تبكي وتستنجد؛ لكن لا حياة لمن تناديهم، فجميعهم أجمعوا بأنها تريد أن تخالف العرف والقبيلة.
فرت نحو الجبل في فجر يوم كئيب تبكي بحرقة قلب تكاد أن تصعد روحها من بين ضلوعها وهي تحكي قصتها لأوراق الأشجار وتهمس للنسيم العليل كأنها تعزف لحنًا قديمًا يلامس شغاف القلب. لحقت بها العشيرة: “يا للعار، ماذا سيقول الناس؟ ذهبت الجبل قُبيل عرسها بأيام هروبًا من استقبال الضيوف”. أنزلوها من الجبل واللعنات والشتائم تنهال عليها حتى أدخلوها سيارة مغطاة بالكامل حتى لا يراها أحد فتجلب العار. طول الطريق أجبروها على صناعة ابتسامة في وجوه القادمين إلى المنزل، في وجوه العابرين، حتى في وجوه الحيوانات. خاطبتها الأم بقسوة العدو اللدود: “نحن سندخلك بيت الزوجية وقفص الفرح ولست مقبرة. أحمدي الله، غيرك معنسات في البيوت”.
نظرت في وجه أمها نظرة لها مليون عتاب ومليون رد أو يزيدون. منه في تفسير راوية القصة مها أحمد لمنصة “نسوان فويس” أن قالت: “الأسد في قفص سُلبت حريته، والفهد والطير والعقارب في حديقة الحيوان يا أماه”.
مخالفة شرعية ومعضلة قانونية
تعد قضية (إجبار البنت على الزواج) من أبرز أشكال العنف ضد المرأة، وتعد الأرياف البيئة الخصبة لذلك. فما زالت مجتمعاتنا تشهد نوعًا من التسلط داخل عدد من البيوت في إرغام الفتاة على الزواج ببعض الأشخاص، وهو عنف يجب الانتباه إليه، بل يجب أن يعطى الاهتمام أكثر من غيره من تلك القضايا التي قد يكون لها نصيب من الشرع.
الأستاذة سامية محمد، خريجة علوم قرآن، لمنصة “نسوان فويس” قالت: ممارسة مثل هذا العنف ليس جديدًا، فقد حوت السنة النبوية طرفًا من هذا، حيث أجبر عدد من الرجال بناتهم على الزواج ممن لا يرغبن، غير أن الرسول صلى الله عليه وسلم أبطل هذا الزواج. فقد ورد عن عائشة – رضي الله عنها – أنها قالت: {جاءت فتاة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أبي زوجني ابن أخيه ليرفع بي من خسيسته، قال: فجعل الأمر إليها؛ أي يجب فسخ الزواج الذي كان قسرًا وهي لا ترضاه}. وتضيف سامية أن الإسلام يبطل كل عقد لا يقوم على رضى الطرفين، ومن قال غير ذلك فقد خالف شرع الله.
حالتان يبطل فيهما الزواج
تقول القاضية روضة العريقي لمنصة “نسوان فويس”: “إنه يبطل عقد الزواج إذا كان بالقوة في حالتين: الحالة الأولى عندما يتم العقد وتلجأ العروسة إلى أحد أقاربها أو إلى القاضي وتخبره بذلك، أو يسمع الأمين الشرعي أو يلاحظ منها ذلك أثناء أو بعد العقد. والحالة الثانية عندما تعقد وتحتفل وتزف إلى بيت الزوجية بالإكراه وتحت القوة، وتأتي بعد ذلك تطالب ببطلان العقد ومعها شهود على ذلك. وهذا أبطله القانون اليمني في المادة 10 من قانون الأحوال الشخصية لسنة 1992م مدة (10): كل عقد بني على إكراه الزوج أو الزوجة لا اعتبار له. ويشترط رضى البكر كما جاء في القانون اليمني المادة (23): يشترط رضا المرأة، ورضا البكر سكوتها ورضاء الثيب نطقها. أما إذا تم العقد وتم العرس وعملت تحزيبة العرس ودعت صديقاتها وتبين عندها ملامح الفرحة أو الرضا والإجازة، فلا يحق لها أن تقول إنها كانت رافضة ولا تقبل دعوتها ببطلان العقد”.
ترى منظمة الأمم المتحدة أن الزواج القسري ما هو إلا انتهاك صريح لحقوق الإنسان، لأنه يتعدى على أبسط حقوق الأفراد واستقلاليتهم. ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن للمرأة مطلق الحرية في اختيار الزوج المناسب، دون قهر أو إجبار، وأن هذا الأمر جوهري لا يمكن التهاون فيه؛ نظرًا لارتباطه بصورة مباشرة بحياتها الخاصة، مستقبلها، وكرامتها.
آثار نفسية واجتماعية وخيمة
يهدد الزواج بالقوة الاستقرار المجتمعي والنفسي والأسري؛ ويعيش الأطفال مستقبلًا حياة مضطربة وغير طبيعية تشوبها العدوانية وعدم الود والإخاء غير مبنية على الحب والود.
الدكتورة في علم الاجتماع ألطاف الأهدل لمنصة “نسوان فويس” قالت: “إن الزواج بالقوة له آثار اجتماعية متعددة منها، ضعف القدرة على بناء علاقة زوجية سليمة. والتصرف خارج نطاق العاطفة في المواقف المستقبلية بين الزوجين. وضعف القدرة على تقبل الذات، وضعف القدرة على تربية الأبناء بشكل جيد في الجانب العاطفي، وضعف الرغبة في التواصل الجيد مع أهل الزوج”. وتضيف الأهدل: “إن هذه الزيجة تعمق الشعور بالظلم من ناحية الأب وفهم السلطة الأبوية بشكل سلبي قد ينعكس مستقبلًا على تربية الأبناء”.
حكم القبيلة أو الخوف على الإرث
لمنصة “نسوان فويس”، قالت الدكتورة رانيا خالد: “الزواج بالإكراه أو الزواج الجبري هو زواج يقوم على المصالح أو القبيلة أو يحكمه الإرث أو المال بصفة عامة. ورغم أننا في عصر العولمة والانفتاح على العالم المتقدم، ما زلنا في عالمنا الثالث متمسكين ببعض العادات والتقاليد التي في كثير منها مخالفة للشريعة الإسلامية، لتبدأ معركة الطرفين فيها خاسران. وفي أغلب الحالات تكون البنت هي الضحية التي لا مفر أمامها إلا الخضوع لسكين والدها أو وليها ليختار لها دون أن يكون لها رأي أو كلمة، باعتبار ذلك في مفهوم الكثيرين من هؤلاء أن الفتاة لا رأي لها وكأننا في عهد العصور الوسطى”.
وتضيف رانيا: “وبالرغم من أن مثل هؤلاء الآباء أو أولياء الأمور يطلعون يوميًا على كوارث مثل هذه الزيجات الجبرية من فشل وتفكك أسري وقضايا تنظرها المحاكم كل يوم وأبناء يعانون حياة النكد. إضافة إلى وصول الفتاة لمرحلة تعاني فيها من حالات اكتئاب وأمراض نفسية وعضوية عديدة أو الهروب من عش الزوجية بعد فترة وجيزة من إجبار الفتاة على الزواج من رجل لا ترغب به، فضلاً عن جرائم قتل الأزواج التي شهدتها كثير من المحاكم المصرية وفي دول عربية عديدة وغيرها من المآسي، فإن البعض لا يسمع ولا يرى غير نفسه وتحقيق مصالحه تحت شعار (مصلحة البنت)”.
آثار تطال الزوج أيضًا
وهناك أيضًا أثر كبير يقع على الزوج عندما يعلم بأنه تزوج من فتاة رغمًا عنها وبدون رضاها، إذ قد يؤثر عليه نفسيًا بشكل كبير مما يؤثر على العلاقة بينهما وقد ينعكس ذلك عن سوء معاملة أو الوصول إلى الطلاق.
أما الدكتورة نسرين الفاطمي فقالت: “إن المرأة المتزوجة قسرًا يؤثر عليها ذلك سلبًا بحيث تشعر بأنها خُلقت فقط كي تكون عبدًا مأمورًا ينفذ أي طلب. وهذا الشعور قد يتسبب في تعرضها لاكتئاب مؤقت، وحسب بيولوجية النساء فإن منهن من يتطور الاكتئاب النفسي إلى أضرار جسيمة توصل إلى اضطرابات نفسية مثل الوسواس القهري ونوبات صرع نفسي وغيرها من الأضرار النفسية”. وأضافت الفاطمي: “كما أن هناك نفسية تلحق الزوج الذي تزوج بامرأة لا ترغب به. هناك نوعان من الرجال: رجل عند معرفته بعدم رغبة الزوجة به فإنه يتعامل معها وكأنه سي السيد الذي لا يقبل منها أي رأي أو كلمة، والنوع الآخر رجل علم بأن لا ترغب به امرأة يشعر بالنقص وأنه ليس كاملًا كالآخرين فتقل ثقته بنفسه مما يجعله يعامل زوجته بعنف وكبرياء يشبع به غروره ومرضه النفسي، مما يؤدي إلى اضطرابات نفسية وعدم الاستقرار الأسري فيكون نهاية الزواج الطلاق والتفكك الأسري وهذا أكبر كارثة تدمير المجتمع”.