امل خالد-نسوان فويس
في أحد أركان مدينة مأرب، المحافظة التي تحولت إلى ملاذ للآلاف من الأسر النازحة جراء الحرب في اليمن أكثر من 6000 أسرة نازحة ما يعادل 2 مليون فرد أتوا إلى مأرب.
في هذا المكان تتصاعد أجواء الحرب والمعاناة، وتتكشف قصص مختلفة عن الصمود والإبتكار. إنها قصة النساء اللاتي تحمّلن النزوح، وفقدن الأحبة، وواجهن تحديات اقتصادية قاسية، ولكنهن قاومن كل ذلك وتمكنّ من إعادة تشكيل أدوارهن، وتحدي النمط الاجتماعي التقليدي، وبناء مستقبل جديد لأنفسهن وأسرهن.
تحدي نمط العلاقات الاجتماعية التقليدية
قبل الحرب، كانت النساء في مأرب يُنظر إليهن كحارسات للبيت، معزولات عن سوق العمل ومنهمكات في الحياة الأسرية التقليدية. لكن و مع اشتداد الحرب، أجبرت الظروف العائلات على النزوح، وتعرّضت الروابط الاجتماعية بين الأجيال والجنسين إلى اختبار غير مسبوق. تحوّل اعتماد العائلات على النساء إلى ضرورة، حيث وجدت كثيرات منهن أنفسهن المعيلات الوحيدات لعوائلهن، مما قاد إلى تغيير جذري في الأدوار الاجتماعية، حيث وصل عدد النساء العاملات في مأرب إلى 30% في وقت قياسي.
تروي أفراح علي، وهي خياطة وأم، قصتها عن كيف اضطرتها ظروف النزوح لفقدان تجمعها الأسري التقليدي، حيث تقول: “الحرب أجبرتني على النزوح والتنقل المستمر، وأثر هذا بشكل كبير على حياتي الأسرية.” وبعد أن استشهد زوجها، وجدت أفراح نفسها مجبرة على تحمل أعباء الحياة بمفردها وهي أم لطفلتين، مما دفعها لاستثمار موهبتها في الخياطة وبدء مشروعها الخاص متحديتا أسرة زوجها التي منعتها من العمل وهددتها بأخذ ابنتيها.
أصبحت النساء في مأرب شريكات أساسيات في إعالة أسرهن، واكتسبن ثقة متزايدة في قدراتهن، ما قاد إلى تحوّل عميق في النظرة المجتمعية التقليدية نحوهن، تقول أفراح: “في البداية لم يتقبل المجتمع فكرة أن تعمل النساء، لكن بمرور الوقت وتحدي الصعوبات، بدأت النظرة المجتمعية تتغير تدريجيًا.”
دور الصدمات النفسية ك حافز للتغيير
تخلّف الحرب ندوبًا نفسية عميقة، وقد تتعرض النساء لاضطرابات نفسية نتيجة فقدان الأحبة والنزوح والعيش في ظروف غير مستقرة، إلا أن هذه الصدمات تحولت، لدى العديد من النساء، إلى دافع قوي لمواجهة الحياة بشكل جديد، خاصةً بالنسبة لأولئك اللواتي يتحملن مسؤولية تربية أطفالهن.
تُشيد أبرار صبر، وهي سيدة بدأت مشروعًا لبيع أطقم الصلاة والعبايات، بقوة النساء في مأرب رغم الأزمات، تروي كيف دفعها استشهاد زوجها إلى العمل من المنزل، حيث وجدت في ملء وقتها بالمشروع طريقًا لتحسين حياتها النفسية والمادية بعد انهيار دام لعامين وفراغ يتخلله يأس من الحياة، تقول أبرار : “الحرب ولّدت لدينا إرادة قوية لتحقيق أهدافنا، وكنت أريد أن أشعر بأنني جزء من المجتمع وأحقق استقلالي المالي.”
توضح أبرار كيف وفرت النساء لبعضهن البعض الدعم النفسي، حيث كانت النساء في مأرب مصدرًا للإلهام والقدوة لبعضهن البعض، يتبادلن الحكايات والتجارب، مما يخفف من أثر الصدمات التي تعرضن لها.
الابتكار الاجتماعي في بيئة الأزمات وندرة الموارد
مع نقص الموارد وغياب الاستقرار الاقتصادي، كانت النساء في مأرب مجبرات على البحث عن حلول جديدة وابتكار طرق للتكيف مع الظروف الصعبة، لعبت الابتكارات الاجتماعية دورًا محوريًا في تمكنهن من النجاح، وأصبحت التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي أدوات حيوية لدعم مشروعاتهن.
تتحدث منى السعدي، التي كانت مديرة مدرسة في صنعاء سابقا و افتتحت محلًا للعطور والبخور في مأرب بعد نزوحها،أسمته روائح السعيدة، تتحدث منى عن التحديات التي واجهتها خلال بدايات مشروعها، وعن الكيفية التي تمكنت من خلالها من استخدام خبرتها وإيجاد فرصة لتدريب نساء أخريات بحاجة إلى دعم، حيث تقول منى: “أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة هامة لترويج منتجاتي والوصول إلى زبائن جدد.” كما أوضحت كيف أن العمل من المنزل هو الأفضل للكثير من النساء في ظل الأوضاع الصعبة.
لم يكن الابتكار مقتصرًا على الجوانب التقنية فحسب، بل أيضًا على أساليب العمل… استخدمت ملاك البيحاني مثلاً المهارات الشخصية في تقديم منتجات الشوكولاتة بجودة عالية، معتمدة على موارد تشتريها من السعودية ، مستخدمة إبداعاتها في تطوير المشروع، رغم الصعوبات الاقتصادية التي أثرت على سعر الشوكولاتة واستقرار المشروع.
تحولات في نظرة المجتمع المحلي للمرأة
ومع نجاح العديد من النساء في مشاريعهن، شهد المجتمع المأربي تحولات تدريجية في نظرته تجاه المرأة، لم يعد يُنظر إليهن كضحايا أو عبء اقتصادي، بل كعناصر فعالة ومؤثرة في الاقتصاد المحلي، قادرات على المنافسة وتحقيق الاستقلال المالي، حيث دخلت الدراسات الجامعية العديد من النساء الماربيات وانخرطن في المجتمع بكل ثقة واقتدار.
تروي أفراح كيف أن المجتمع بدأ بتقبّل فكرة خروج النساء للعمل بعد نجاحهن في تحقيق دخل مستقل، تقول”كان خروجنا إلى سوق العمل يُنظر إليه بتردد في البداية، لكن مع مرور الوقت بدأ الناس يرون نجاحنا وتأثيرنا، مما أدى إلى تقبّل تدريجي لفكرة وجود النساء في سوق العمل” تضيف أفراح “تُعتبر أبرار مثالًا آخر على هذا التحول، حيث أصبحت تُعتبر رمزًا للمرأة الناجحة في مأرب، خاصة مع توسع مشروعها لبيع أطقم الصلاة والعبايات الذي أصبح مطلوبًا في أنحاء اليمن كافة.
أربعة أعمال أصبحت هي الرئيسية للنساء في هذه المحافظة التي رافقتها نقلة نوعية منذ بداية الحرب، صنع الحلويات والمعجنات، الخياطة، البيع الالكتروني، وصناعة البخور والعطور.
الدور الخفي لرجال المجتمع في دعم هذا التحول
ورغم التركيز على النساء، لا يمكن تجاهل دور بعض الرجال في دعم هذه التحولات، برغم التحفظات، فقد لعب بعض الرجال دورًا خفيًا في تشجيع النساء على المشاركة في سوق العمل و بدء مشاريعهن الخاصة، تشير منى السعدي إلى أن الدعم الذي قدمه بعض الرجال، سواء كان على مستوى الأسرة أو المجتمع، كان له دور كبير في تسهيل مشاركتها في سوق العمل.
بينما تشرح ملاك البيحاني كيف أن والدها وأفراد أسرتها كانوا لها سندًا رئيسيًا خلال مشوارها. “لم يكن المجتمع متقبلًا لفكرة أن تفتح امرأة أي مشروع خاص بها، لكن مع الدعم الذي حصلت عليه من أسرتي، استطعت أن أحقق هذا الحلم وأدير مشروعي بنجاح.” لتؤكد على أن دور الرجال في دعم النساء مثل دافعًا كبيرًا للتغيير، مما يعكس أهمية الشراكة بين الجنسين في بناء مستقبل مستقر ومشرق للمجتمع ككل.
الإرادة والتمكين في وجه الصعوبات
تبرز قصص النساء في مأرب كدليل حي على قدرة الإنسان على التكيف مع الأزمات وتجاوزها، حتى في أحلك الظروف، تروي تجارب أفراح علي، وأبرار صبر، وملاك البيحاني، ومنى السعدي، كيف استطاعت النساء تحويل أوجاعهن وآلامهن إلى طاقة للابتكار والإبداع، وتحقيق الاستقلال المالي، وإثبات أن المرأة قادرة على تغيير واقعها.
لقد أثبتت النساء في مأرب أنهن رائدات ليس فقط في مشاريعهن، بل أيضًا في إعادة تشكيل العلاقات الاجتماعية، وكسر الصورة النمطية للمرأة في المجتمع، هذه القصص تبرز أهمية الدعم النفسي والاجتماعي للنساء في مواجهة الأزمات، وتؤكد أن التغيير ممكن عندما تلتقي الإرادة مع الفرص المناسبة، حتى وإن كانت تأتي في سياق ظروف صعبة كالحرب والنزوح.
ومع هذا التحول الكبير، تبدو مأرب اليوم بمثابة مسرح يُعيد تعريف أدوار النساء في المجتمع، حيث تنبثق من رماد الحرب طموحات جديدة وقصص نجاح ملهمة، تشهد على عزم النساء وقوتهن في مواجهة الصعاب، لتظل مأرب شامخة بروح نسائها الصامدات.