الغارمات في اليمن.. دوامة الديون تهدد مستقبل المعيلات في ظل الأزمات

شارك المقال

سهير عبد الجبار – نسوان فويس

في واقع يزداد قسوة، تجد آلاف النساء اليمنيات أنفسهن في طليعة المعيلين لأسرهن، وهو دور يلقي على عاتقهن مسؤوليات جسيمة تتجاوز قدراتهن في كثير من الأحيان. فبين مواجهة وطأة المرض، وتأمين تعليم الأبناء، وسداد الإيجارات المتزايدة، وصولًا إلى محاولة الحفاظ على ممتلكات الأسرة من الضياع، تضطر هؤلاء النسوة إلى البحث عن حلول عاجلة غالبًا ما تقودهن إلى براثن الديون.

قصص الغارمات في اليمن تتشابه في دوافعها وتختلف في تفاصيلها المأساوية. فحين بدأت أعمدة منزل “حُسن أحمد” في التصدع، لم تجد بُدًا من الاستدانة من قريبتها لإنقاذ مأوى أسرتها من الانهيار الوشيك. خطوة بدت ضرورية آنذاك، لكنها سرعان ما تحولت إلى عبء ثقيل ظل يلاحقها على مدى أحد عشر عامًا.

في عام 2011، استدانت “حُسن” ما يقارب 116.15 جرامًا من الذهب لترميم منزلها، في وقت لم يتجاوز فيه سعر الجرام الواحد 12 ألف ريال (نحو 53.47 دولارًا). ومع مرور الوقت، شهد سعر الذهب ارتفاعًا جنونيًا ليبلغ اليوم نحو 51 ألف ريال للجرام الواحد (حوالي 98 دولارًا)، أي ما يعادل خمسة أضعاف قيمة الدين الأصلي. هذا التضاعف جعل مهمة السداد شبه مستحيلة لامرأة محدودة الدخل، وألقى بظلال قاتمة على حياتها وحياة أسرتها.

 

نسخة من الدين الذي التزمت به حُسن طوال إحدى عشرة سنة
نسخة من الدين الذي التزمت به حُسن طوال إحدى عشرة سنة

تتفاقم الإشكالية حين تلجأ النساء، بحكم شبكاتهن الاجتماعية، إلى طلب قروض من الأقارب والمعارف، سواء نقدًا أو على شكل ذهب، الذي يُعد تقليديًا وعاءً للادخار. ومع تأخر السداد، يصبحن ضحايا لتقلبات السوق وارتفاع قيمة الدين. وفي ظل غياب التفاهم من بعض الدائنين، يجدن أنفسهن أمام شبح القضاء وأحكام السجن التي تزيد من وطأة معاناتهن.

شائعات الارتفاع 

في أسواق الذهب بصنعاء، يتجلى قلق الغارمات بوضوح. فبدلًا من التساؤل عن أسعار الشراء، يسألن بخوف عن أسعار البيع، متأثرات بالشائعات المتداولة عن الارتفاعات القياسية. 

ففي إحدى زياراتي للسوق في مدينة صنعاء، التقت بثلاث نساء كنّ يتنقلن بين المحلات، يسألن عن سعر الجرام. لم تكن أيٌّ منهن تملك المال، لكنهن جئن للتأكد من الأخبار “المفزعة” التي تداولها الناس عن ارتفاع الأسعار.

تقول إحداهن “قيل لي إنه وصل لأكثر من مائتي ألف، لم أصدق حتى جئت بنفسي.”

وبالفعل، كانت المفاجأة حقيقية بأن قيمة نصف الجنيه الذهبي، الذي لم يتجاوز 123 ألف ريال قبل سنوات، قفز إلى ما يزيد عن 200 ألف ريال، مما يعكس حجم الكارثة التي تواجه من استدنّ بالذهب أو ادخرنه.

ميسون الإرياني، ناشطة في مجال المساعدات الإنسانية، تولي اهتمامًا خاصًا بقضايا السجينات الغارمات، وتسعى جاهدة لإنقاذهن ومساعدتهن على استعادة حياتهن. لكن مهمتها تصطدم بتعقيدات قانونية ومالية مرهقة، حيث تتراكم تكاليف المحاماة والرسوم القضائية على أصل الدين، مما يجعل الخروج من هذه الدوامة أمرًا بالغ الصعوبة في ظل غياب الدعم المؤسسي الكافي.

ورغم صعوبة الحصول على معلومات دقيقة حول وضع الغارمات داخل السجون، يركز هذا التقرير على الحالات التي لم تصل بعد إلى أبواب السجون، والتي تم توثيق ديونها رسميًا عبر عقال الحارات وأوراق قانونية، بهدف تسليط الضوء على هذه المعاناة قبل تفاقمها.

 

رأي الدين

الاستدانة بالذهب أو بالعملة الصعبة لا تُعد محرّمة شرعاً، بشرط أن تتم إعادة المال أو الذهب بنفس القيمة والعيار الذي تم الاستدانة به، وهذا ما يؤكده الشيخ جبري حسن في حديثه لمنصة نسوان فويس: “الاستدانة بالذهب أو المال ليست حرامًا، ويجب على المدين أن يرد ما استدانه من نفس الجنس، حتى وإن تضاعفت قيمته مئتي مرة.”

ومن جانبها تؤكد المحامية المتخصصة في القضايا التجارية زينب الصلوي، على أن الاستدانة بالذهب أو العملة الصعبة جائزة شرعًا وقانونًا، بشرط رد المثل في الجنس والكمية ما لم يتفق الطرفان على قيمة محددة وقت السداد. وفي غياب التوثيق الواضح لقيمة الدين وقت الاستدانة، يُلزم المدين بإعادة ذات المقدار، حتى وإن تضاعفت قيمته السوقية بشكل كبير.

وتشير احصائيات هيئة الأمم المتحدة إلى أن النساء يترأسن %26 من الأسر، وهن يواجهن النزوح في ظل انعدام أو محدودية الدخل، وتزايد التهديدات الأمنية، وتفاقم خطر التعرض للعنف والاستغلال. ويُقدَّر أن نحو 2.3 مليون امرأة وفتاة يعشن حاليًا في وضع النزوح الداخلي في مختلف أنحاء البلاد.

هذا التحول في الأدوار يعرضهن لمخاطر جمة، أبرزها الاستدانة في غياب الضمانات القانونية والحماية الاجتماعية، مما قد يدخلهن في حلقة مفرغة من الديون أو حتى السجن.

الحاجة ملحة لإعادة النظر في القوانين وتوفير دعم مؤسسي خاص بالنساء الغارمات، يراعي هشاشة وضعهن ويمنحهن فرصة جديدة للحياة. “حسن” تواصل كفاحها بصمت، تحاول جاهدة توفير قيمة الذهب الذي استدانته، بعد أن خذلتها محاولات الحصول على دعم. قصتها تبقى شاهدًا على معاناة آلاف النساء اللاتي يتحملن أعباء تفوق طاقاتهن للحفاظ على أسرهن وبيوتهن من الانهيار.

مقالات اخرى