آزال الصباري _ نسوان فويس
قبل أيام تعرضت لحادث سير ، مثل أي حادث هناك سائق تسبب في وقوع الحادث المروري ، أو قد يكون السائقان اشتركا في السبب ، كنت متأكدة أني لم أكن سبباً في وقوع الحادث ، كما كنت في كامل قواي العقيلة وأنا أتفاجئ بسائق الباص عاكسا للخط ، يهرول ناحيتي ، ويسحق يمين سيارتي بمقدمة( الدباب ) ، إلى اليوم لاتزال السيارة في الورشة تنتظر أن يكمل صاحب الباص استكمال قيمة الضرر ، رغم مساعدتي الطوعية له.
بعد وقوع الحادث بثوانٍ كان سائق الباص فوق مقوده كجثة هامدة ، لا يتحرك ، لايتكلم ، بدا أنه لا يفكر أيضاً ، بينما خرجت من سيارتي بنصف قلب ونصف عقل ، ونصف سيارة ، تفقدت من كانوا معي ، لقد نجونا بأعجوبة ، ربما كانت دعوة صادقة أنقذتنا من نصف موت محقق ، أو من موت مكتمل لما لا ، نظرت إلى سيارتي ثم إلى الباص ، كانت سيارتي بتلك الحالة المخيفة ، اقتربت من سائق الباص ، “أنت بخير يا مجنون كنت روحتنا” ، كان سليما من أي ضرر جسدي ، جلست على أحد الأرصفة، ألتقط أنفاسي ، حمدت الله على سلامة أختي وابنها وابنتي وسائق الباص .
لم تكتمل ثوان الدقيقة الأولى عقب الحادثة حتى تجمع الناس من كل جانب ، كانوا رجالاً من مختلف الأعمار ، لا توجد امرأة واحدة غيري وأختي وابنتي التي بقيت داخل عيادة قريبة برفقة الطفل ،ابن خالتها.
لم يمنحي ذلك الجمع الغفير من الرجال مزيداً من الوقت للذهاب إلى العيادة ، أو حتى لجلب قنينة ماء من البقالة ، بدأوا يطلقون الأحكام ،ويقيمون الحادث ، يعيدون صياغة الجمل نفسها ، يحلفون باسم الله ، الكل يدلي بعبارات مختلفة السياقات ، إلا أن كلها كانت تنطلق من نفس الفكرة ،وتصب في نفس الحفرة ،المرأة هي سبب الحادث! .
ثلاثة رجال تترواح أعمارهم بين الخمسين والستين كانوا يخالفون رأي البقية ، بينما كان البقية يجتمعون حول سائق الباص يتفقدونه ، يواسونه ، ويطمئنونه :” أنت لم تكن مخطئ ، النسوان مايعرفين يسوقين .. تلك المرأة هي السبب ”
وفي نهاية المطاف بقي الثلاث الرجال يحاورون الجمع الغفير ، لم يستمروا كثيرا فسرعان ما بدأت أصواتهم تخفت شيئا فشيئا أمام ذلك الصراخ والأيمان المغلظة.
استجمعت قواي ، كانت روحي ترتجف كطائر ذبيح ، ملأت رأتيَّ بهواءٍ جديد ،اتسع قفصي الصدري ،شعرت بذلك، كان الخوف يتطاير منه تياراتٍ وأمواج ، شابكت أصابع يدي لأخفف ارتجافهما الشديد ، وقلت في نفسي، انهضي إن الجميع ضدك ، قفي أيتها المرأة ، لا وقت للإطمئنان ، لا وقت لاستحضار الأمان. اقتربت من صاحب الباص ، وصرخت في وجهه المحامين عنه ، أنت المخطئ ، أنت عاكس خط وستتحمل نتيجة تهورك ومخالفتك ، اكتفي برمي جمجمته فوق مقوده ، لم يجادل كثيراً ، إذ لم يكن من داعٍ لذلك فمن حوله كانوا يقومون بالواجب وأكثر ، كلُّ رجلٍ كان يقفُ بجانب صاحب الباص كان يصرخ ( هي الغلطانة ، ١٠٠% )، وكلُّ رجلٍ كان يدعمه بالعبارات التي جعلته يكتفي بالتقاط الأنفاس ، والإطمئنان رغم علمه علم اليقين أنه المخطئ الوحيد ، وأنه كان سيقتل أربعة أرواح دفعة واحدة ، وربما تكون روحه هي الخامسة ، لولا لطف الله به وبنا.
بعد حادث مروِّع ، وأمام هذا الهجوم المخيف نسيت كلَّ شيء ، نسيت بمن أتصل ، بمن أستعين ،لم أفكر سوى أني وأختي نواجه عنف شديد ، أصبح تأثيره علينا أكثر بكثير من خوف وفزع الحادث ، كلُّهم ضدنا ، أحدهم هبط من منزله ، كان شدقاه منفوخين ، وكالذي ينوي إلتهام أشياء كثيرة فتح فمه المتسخ بالمسحوق الأخضر ، تطاير فتات القات في وجيه من حوله وهو يصرخ :” مادامت السواقة مرة فهي الغلطانة “.
أغمضت عيني لأنسى ذلك المشهد المحرض على الغثيان ، بينما جاء – من بعيد – صوت أختي المرتجف والقوي في الوقت نفسه : ” كيف حكمت وأنت في بيتك ؟ ” وبسرعة أشد من البرق ، رد ولايزال الوسخ الأخضر يتقاذف من فمه :” طبيعي مره مره ، ما تعرف تسوق “.
رجل آخر ملتحٍ ، كانت المسبحة بيده ،وسماطة تغطي رأسه ،لم يكن شدقاه منفوخين ،لكنه كان أكثر الذين حلفوا أني من تسببت بالحادث .
أحد الثلاثة الرجال الملائكة ، والذي كان أكثرهم إنصافا ، تبرع استقل موتورا كي يجلب لنا رجل مرور ، شعرت بقليل من الأمان ، لأني كنت متأكدة أني لم أكن مخطئة البتة ، مع ذلك لم استبعد أن يأتي المرور ليحكم بحكم من سبقوه ، كل شيء حولي كان مخيفا ، كُلُّ الأصوات كانت قاسية وظالمة ، أصبحتُ خائفةً أن أفقد كرامتي كامرأة ينعتها الرجال بالفشل ، وكامرأة لايحق لها الحديث والدفاع عن نفسها أمام الرجال – كما تفوه أحدهم ـ خفت أن أفقد سيارتي واتحمل قيمة إصلاح الضرر .
جمَّعت قوتي التي تبعثرت في كل مكان ، ألقيت بتلك المخاوف تحت أقدام أولئك الرجال المتعاضدين ضدنا ، اتجهت لتصوير لوحة الباص بعد أن عرفت أن صاحب الباص قد استسلم لتحريض البعض ،وقرر الفرار بينما كانت أختي تواجه حملة شرسة من مجموعة أخرى من الرجال حضروا فجأة ليكرروا العبارات القبيحة المحرضة والمتنمرة نفسها .
استجمعت أفكاري قليلا ، اتصلت بأقربائي ، طلبت العون ،وعدت لأحارب الريح التي كانت تجلب لأذني تسابق تلك العبارات المتكدسة والمتعاضدة ، بعد عشر دقائق ، توقف سائق هيلوكس نظر قليلا وجدني أصرخ في وجيه الرجال ،” أنا لم أخطئ ولن نتحرك من هنا قبل أن تفتح الكاميرات أو يأتي المرور ” ، أقطب حاجبيه ، وكأنه يراقب أمرا قبيحا يهتك ذكورته خطوةً خطوة ، فجأة أخذ يحشر ثوبه إلى فخذيه ، ويصرخ وهو ينحني بظهره ليشرح للجميع أين وقع الحادث وكيف وقع وأني أنا المخطئة ، كنت ثابته أمامه أراقبه ، بسخرية وتهكم ، لا أدري وصلته أو لا ، لكني حين قلت له : أنت أسكت ، وواصل طريقك ،من طلبك تحكم بيننا ، أنت أظلم الجميع هنا ”
؟! أمسك رأسه بيديه ، كان يتلوى كمن أصابه المس ، وسار يجوب الشارع بنفس الهيئة ، ونفس الطقوس ، شدق منفوخ ، ووجه يتقاطر غضبا وطيشا ، ثم حين وجدني ابتعدت لأقف أمام سيارتي وأختي أمام الباص ، غير مساره نحوي ، ثم مط صوته بلهجةٍ واثقةٍ شديدةِ السخرية :” أنت الغلطانة قومي تروحي قبل المرور ما يجي يهينك وتدفعي أنت كل شيء ، تروحي أحسن لش “.
كمن يريد إثبات حسن أخلاق ،وقوة حجته ختم بالعبارة الأخيرة ” صدقيني أنت الغلطانة “!!
في جهة أخرى من الشارع مجموعة من الشباب صغار السن ، هم أيضا لم يشاهدوا الحادث، كانوا يرفعون أصواتهم ، المطبخ المطبخ ، مابش مرة تسوق!!.
لقد عشت دقائق تساوي زمنا بطيئا شديد الضراوة ، تعرضت فيها للعنف النفسي ، والضغط المجتمعي الذي باستطاعته أن يضعف أي روح مهما كانت قوتها، ما بالكم بأحد تعرض لحادث مخيف، ثم واجه مجتمع متعالي ، متغطرس ، ومتنمر ، والأهم من ذلك أن كل الأحكام كانت عنصرية ، تذكرت حينها المثل التي كانت تردده أمي في حياتها ” من تفلوه سبعة أجذموه ” وقررت ألا أسمح لهم بهزيمتي ولو تدافقوا زمرا زمرا .
لم يكن الرجل اليمني في تلك الدقائق هو الرجل العظيم الذي تحدثت عنه الكتب ، لقد استطاع أولئك الرجال أن يدهسوا أي صورة جميلة كانت في مخيلتي عن الرجولة ، سيقول قائل لماذا لايكون أولئك الرجال الثلاثة هم النموذج العظيم للرجل اليمني ، وسأقول بإنصاف لقد دافعا عن الحق لدقائق لكنهم لم يصمدوا حتى أن إثنان من ثلاثة اتخذا مكانا بعيدا عن الناس ليشاهدا ما سيحدث من بعيد ، وثانية ثانية حتى تلاشا صورتهما واختفيا عن الحشد الأقوى والأشرس .
ماذا لو كان خوفي أكثر من ثباتي ، وقلقي أكبر من ثقتي ، ماذا لو كنت أؤمن أن الرجل أقوى لمجرد كونه ذكر ، وأن المرأة أضعف لمجرد كونها أنثى ، هل كنت سأحبط وأهرب كما طُلب مني ، هل كنت سأفقد حقي ، وسأصبح متهمة بحادث مروري كنت المتضرر الأكبر منه ، ماذا لو كنت أعتقد حقا أن الرجل هو وحده من يجيد كل شيء وأن المرأة فعلاً قليلة القدرة، وعليها أن تلوذ إلى الصمت إذا حضر الذكور ، هل كنت سأتضرر مرتين، مادياً ونفسياً ، نعم كان سيحدث ذلك ، في الحقيقة لم يعد يهمني الضرر المادي حينها بقدر رد اعتباري بأني لم أكن المخطئة ، رغم إيمان أي شخص معرض للوقوع في الخطأ مهما كان حذراً .
عند حضور أقربائي ، بدأت تلك السطوة الذكورية تنكمش ، وشرع ذلك الجمع يتوارى ، مع أصرار صاحب الهيلوكس وزمرته أن المرأة أينما وجدت فهي الخطأ ، انتظرت المرور في تطلع أخير ، أن يكون القانون هو أملي الأخير أمام تلك الزحمة المتوحشة التي حاصرتني قراب النصف ساعة.
لايمكن حصر العنف ضد المرأة بمصطلحات مقننة كالعنف الجسدي أو ..أو ..فكل شيء يحاول أن يحصركِ في زاوية ، أو يلغي جزاءً منك ، أو يقزم مكانتكِ ، أو يحتقر جنسكِ ، أو نوعكِ هو عنف ، وكل عنف يدمر امرأة إنما يدمر نصف المجتمع ويدمر أساسه المتين .آزال الصباري _ نسوان فويس
قبل أيام تعرضت لحادث سير ، مثل أي حادث هناك سائق تسبب في وقوع الحادث المروري ، أو قد يكون السائقان اشتركا في السبب ، كنت متأكدة أني لم أكن سبباً في وقوع الحادث ، كما كنت في كامل قواي العقيلة وأنا أتفاجئ بسائق الباص عاكسا للخط ، يهرول ناحيتي ، ويسحق يمين سيارتي بمقدمة( الدباب ) ، إلى اليوم لاتزال السيارة في الورشة تنتظر أن يكمل صاحب الباص استكمال قيمة الضرر ، رغم مساعدتي الطوعية له.
بعد وقوع الحادث بثوانٍ كان سائق الباص فوق مقوده كجثة هامدة ، لا يتحرك ، لايتكلم ، بدا أنه لا يفكر أيضاً ، بينما خرجت من سيارتي بنصف قلب ونصف عقل ، ونصف سيارة ، تفقدت من كانوا معي ، لقد نجونا بأعجوبة ، ربما كانت دعوة صادقة أنقذتنا من نصف موت محقق ، أو من موت مكتمل لما لا ، نظرت إلى سيارتي ثم إلى الباص ، كانت سيارتي بتلك الحالة المخيفة ، اقتربت من سائق الباص ، “أنت بخير يا مجنون كنت روحتنا” ، كان سليما من أي ضرر جسدي ، جلست على أحد الأرصفة، ألتقط أنفاسي ، حمدت الله على سلامة أختي وابنها وابنتي وسائق الباص .
لم تكتمل ثوان الدقيقة الأولى عقب الحادثة حتى تجمع الناس من كل جانب ، كانوا رجالاً من مختلف الأعمار ، لا توجد امرأة واحدة غيري وأختي وابنتي التي بقيت داخل عيادة قريبة برفقة الطفل ،ابن خالتها.
لم يمنحي ذلك الجمع الغفير من الرجال مزيداً من الوقت للذهاب إلى العيادة ، أو حتى لجلب قنينة ماء من البقالة ، بدأوا يطلقون الأحكام ،ويقيمون الحادث ، يعيدون صياغة الجمل نفسها ، يحلفون باسم الله ، الكل يدلي بعبارات مختلفة السياقات ، إلا أن كلها كانت تنطلق من نفس الفكرة ،وتصب في نفس الحفرة ،المرأة هي سبب الحادث! .
ثلاثة رجال تترواح أعمارهم بين الخمسين والستين كانوا يخالفون رأي البقية ، بينما كان البقية يجتمعون حول سائق الباص يتفقدونه ، يواسونه ، ويطمئنونه :” أنت لم تكن مخطئ ، النسوان مايعرفين يسوقين .. تلك المرأة هي السبب ”
وفي نهاية المطاف بقي الثلاث الرجال يحاورون الجمع الغفير ، لم يستمروا كثيرا فسرعان ما بدأت أصواتهم تخفت شيئا فشيئا أمام ذلك الصراخ والأيمان المغلظة.
استجمعت قواي ، كانت روحي ترتجف كطائر ذبيح ، ملأت رأتيَّ بهواءٍ جديد ،اتسع قفصي الصدري ،شعرت بذلك، كان الخوف يتطاير منه تياراتٍ وأمواج ، شابكت أصابع يدي لأخفف ارتجافهما الشديد ، وقلت في نفسي، انهضي إن الجميع ضدك ، قفي أيتها المرأة ، لا وقت للإطمئنان ، لا وقت لاستحضار الأمان. اقتربت من صاحب الباص ، وصرخت في وجهه المحامين عنه ، أنت المخطئ ، أنت عاكس خط وستتحمل نتيجة تهورك ومخالفتك ، اكتفي برمي جمجمته فوق مقوده ، لم يجادل كثيراً ، إذ لم يكن من داعٍ لذلك فمن حوله كانوا يقومون بالواجب وأكثر ، كلُّ رجلٍ كان يقفُ بجانب صاحب الباص كان يصرخ ( هي الغلطانة ، ١٠٠% )، وكلُّ رجلٍ كان يدعمه بالعبارات التي جعلته يكتفي بالتقاط الأنفاس ، والإطمئنان رغم علمه علم اليقين أنه المخطئ الوحيد ، وأنه كان سيقتل أربعة أرواح دفعة واحدة ، وربما تكون روحه هي الخامسة ، لولا لطف الله به وبنا.
بعد حادث مروِّع ، وأمام هذا الهجوم المخيف نسيت كلَّ شيء ، نسيت بمن أتصل ، بمن أستعين ،لم أفكر سوى أني وأختي نواجه عنف شديد ، أصبح تأثيره علينا أكثر بكثير من خوف وفزع الحادث ، كلُّهم ضدنا ، أحدهم هبط من منزله ، كان شدقاه منفوخين ، وكالذي ينوي إلتهام أشياء كثيرة فتح فمه المتسخ بالمسحوق الأخضر ، تطاير فتات القات في وجيه من حوله وهو يصرخ :” مادامت السواقة مرة فهي الغلطانة “.
أغمضت عيني لأنسى ذلك المشهد المحرض على الغثيان ، بينما جاء – من بعيد – صوت أختي المرتجف والقوي في الوقت نفسه : ” كيف حكمت وأنت في بيتك ؟ ” وبسرعة أشد من البرق ، رد ولايزال الوسخ الأخضر يتقاذف من فمه :” طبيعي مره مره ، ما تعرف تسوق “.
رجل آخر ملتحٍ ، كانت المسبحة بيده ،وسماطة تغطي رأسه ،لم يكن شدقاه منفوخين ،لكنه كان أكثر الذين حلفوا أني من تسببت بالحادث .
أحد الثلاثة الرجال الملائكة ، والذي كان أكثرهم إنصافا ، تبرع استقل موتورا كي يجلب لنا رجل مرور ، شعرت بقليل من الأمان ، لأني كنت متأكدة أني لم أكن مخطئة البتة ، مع ذلك لم استبعد أن يأتي المرور ليحكم بحكم من سبقوه ، كل شيء حولي كان مخيفا ، كُلُّ الأصوات كانت قاسية وظالمة ، أصبحتُ خائفةً أن أفقد كرامتي كامرأة ينعتها الرجال بالفشل ، وكامرأة لايحق لها الحديث والدفاع عن نفسها أمام الرجال – كما تفوه أحدهم ـ خفت أن أفقد سيارتي واتحمل قيمة إصلاح الضرر .
جمَّعت قوتي التي تبعثرت في كل مكان ، ألقيت بتلك المخاوف تحت أقدام أولئك الرجال المتعاضدين ضدنا ، اتجهت لتصوير لوحة الباص بعد أن عرفت أن صاحب الباص قد استسلم لتحريض البعض ،وقرر الفرار بينما كانت أختي تواجه حملة شرسة من مجموعة أخرى من الرجال حضروا فجأة ليكرروا العبارات القبيحة المحرضة والمتنمرة نفسها .
استجمعت أفكاري قليلا ، اتصلت بأقربائي ، طلبت العون ،وعدت لأحارب الريح التي كانت تجلب لأذني تسابق تلك العبارات المتكدسة والمتعاضدة ، بعد عشر دقائق ، توقف سائق هيلوكس نظر قليلا وجدني أصرخ في وجيه الرجال ،” أنا لم أخطئ ولن نتحرك من هنا قبل أن تفتح الكاميرات أو يأتي المرور ” ، أقطب حاجبيه ، وكأنه يراقب أمرا قبيحا يهتك ذكورته خطوةً خطوة ، فجأة أخذ يحشر ثوبه إلى فخذيه ، ويصرخ وهو ينحني بظهره ليشرح للجميع أين وقع الحادث وكيف وقع وأني أنا المخطئة ، كنت ثابته أمامه أراقبه ، بسخرية وتهكم ، لا أدري وصلته أو لا ، لكني حين قلت له : أنت أسكت ، وواصل طريقك ،من طلبك تحكم بيننا ، أنت أظلم الجميع هنا ”
؟! أمسك رأسه بيديه ، كان يتلوى كمن أصابه المس ، وسار يجوب الشارع بنفس الهيئة ، ونفس الطقوس ، شدق منفوخ ، ووجه يتقاطر غضبا وطيشا ، ثم حين وجدني ابتعدت لأقف أمام سيارتي وأختي أمام الباص ، غير مساره نحوي ، ثم مط صوته بلهجةٍ واثقةٍ شديدةِ السخرية :” أنت الغلطانة قومي تروحي قبل المرور ما يجي يهينك وتدفعي أنت كل شيء ، تروحي أحسن لش “.
كمن يريد إثبات حسن أخلاق ،وقوة حجته ختم بالعبارة الأخيرة ” صدقيني أنت الغلطانة “!!
في جهة أخرى من الشارع مجموعة من الشباب صغار السن ، هم أيضا لم يشاهدوا الحادث، كانوا يرفعون أصواتهم ، المطبخ المطبخ ، مابش مرة تسوق!!.
لقد عشت دقائق تساوي زمنا بطيئا شديد الضراوة ، تعرضت فيها للعنف النفسي ، والضغط المجتمعي الذي باستطاعته أن يضعف أي روح مهما كانت قوتها، ما بالكم بأحد تعرض لحادث مخيف، ثم واجه مجتمع متعالي ، متغطرس ، ومتنمر ، والأهم من ذلك أن كل الأحكام كانت عنصرية ، تذكرت حينها المثل التي كانت تردده أمي في حياتها ” من تفلوه سبعة أجذموه ” وقررت ألا أسمح لهم بهزيمتي ولو تدافقوا زمرا زمرا .
لم يكن الرجل اليمني في تلك الدقائق هو الرجل العظيم الذي تحدثت عنه الكتب ، لقد استطاع أولئك الرجال أن يدهسوا أي صورة جميلة كانت في مخيلتي عن الرجولة ، سيقول قائل لماذا لايكون أولئك الرجال الثلاثة هم النموذج العظيم للرجل اليمني ، وسأقول بإنصاف لقد دافعا عن الحق لدقائق لكنهم لم يصمدوا حتى أن إثنان من ثلاثة اتخذا مكانا بعيدا عن الناس ليشاهدا ما سيحدث من بعيد ، وثانية ثانية حتى تلاشا صورتهما واختفيا عن الحشد الأقوى والأشرس .
ماذا لو كان خوفي أكثر من ثباتي ، وقلقي أكبر من ثقتي ، ماذا لو كنت أؤمن أن الرجل أقوى لمجرد كونه ذكر ، وأن المرأة أضعف لمجرد كونها أنثى ، هل كنت سأحبط وأهرب كما طُلب مني ، هل كنت سأفقد حقي ، وسأصبح متهمة بحادث مروري كنت المتضرر الأكبر منه ، ماذا لو كنت أعتقد حقا أن الرجل هو وحده من يجيد كل شيء وأن المرأة فعلاً قليلة القدرة، وعليها أن تلوذ إلى الصمت إذا حضر الذكور ، هل كنت سأتضرر مرتين، مادياً ونفسياً ، نعم كان سيحدث ذلك ، في الحقيقة لم يعد يهمني الضرر المادي حينها بقدر رد اعتباري بأني لم أكن المخطئة ، رغم إيمان أي شخص معرض للوقوع في الخطأ مهما كان حذراً .
عند حضور أقربائي ، بدأت تلك السطوة الذكورية تنكمش ، وشرع ذلك الجمع يتوارى ، مع أصرار صاحب الهيلوكس وزمرته أن المرأة أينما وجدت فهي الخطأ ، انتظرت المرور في تطلع أخير ، أن يكون القانون هو أملي الأخير أمام تلك الزحمة المتوحشة التي حاصرتني قراب النصف ساعة.
لايمكن حصر العنف ضد المرأة بمصطلحات مقننة كالعنف الجسدي أو ..أو ..فكل شيء يحاول أن يحصركِ في زاوية ، أو يلغي جزاءً منك ، أو يقزم مكانتكِ ، أو يحتقر جنسكِ ، أو نوعكِ هو عنف ، وكل عنف يدمر امرأة إنما يدمر نصف المجتمع ويدمر أساسه المتين .