أمل وحيش ـ نسوان فويس
أن تولد لأبوين غير معروفين، فهذه جريمة يحاسب عليها المجتمع قبل القانون، على الرغم من أنك ضحية لخطأ ما ارتكبه شخصين غير مسؤولين، أو لظروف اقتصادية سيئة أجبرت الوالدين على التخلي.
معاناة مجهولي النسب”اللقطاء” في اليمن مستمرة منذ اللحظات الأولى التي عثر عليهم فيها داخل تلك الكرتونة التي كانت هي الأمان بالنسبة لهم بعد أن تخلى عنهم مصدر الأمان الحقيقي، لتمضي سنين العمر وهم يدفعون ثمن ذنب لم يقترفونه، وتستمر فصول المعاناة التي لا تنتهي خاصة إن كانت اللقيطة أنثى.
“بنت حرام”
(أم رضوان) 38 عاماً من الألم، أم لولدين وبنت، وجدت وهي طفلة بجوار أحد المساجد بداخل كرتون بالعاصمة صنعاء، فتبنتها إحدى الأسر التي اعتبرتها واحدة من بناتها، حتى كبرت لم يشعرها أحد من أهلها والمقربين بأنها “لقطية” بل كما تقول “اعتبروني بنت من بناتهم ومافرقوا بيننا”.
لم يكن لديها صديقات كثر فقد كانت علاقاتها محدودة مكتفية بعائلتها التي تبنتها، وكان شعورها كأي فتاة عادية، حتى تقدم أحدهم لخطبتها وعلم هو ووالدته بأنها (لقيطة) لكن الزواج تم بالرضا والقبول، وبالرغم من أنها حاولت أن تعيش بسلام إلا أن نظرة الدونية والاحتقار المستمر من قبل والدة زوجها سبب لها الكثير من الألم فكلمة “بنت حرام” ماتزال تكسرها، ودائماَ ما كانت والدة زوجها تعايرها بأنها تفضلت عليها وزوجتها بابنها…
كلمات جارحة كثيرة سمعتها (أم رضوان) وكانت تنزل عليها كالرصاص،في الوقت الذي لا ذنب لها كونها ولدت مجهولة النسب ولم تختر هي حياتها فهذه مشيئة القدر، إلا أن القسوة كانت الأكثر حضوراً في حياتها بعد زواجها ،حتى بعد أن أصبحت أماً لثلاثة أبناء منهم فتاة ، ظلت تلك الكلمات الجارحة تطاردها من قبل زوجها وأمه، وهو ما دفعها لأن تغادر ذلك المكان المسموم، لتقرر الانفصال والعودة للبيت الذي تبناها منذ أن وجدوها قطعة لحم ، ولا أحد من أبنائها يعلم بقصتها سوى ابنتها التي تعدها صديقة وسند لها بعد أن خذلها زوجها وقررت العيش في بيت منفصل بناه لها والدها الذي لم يتخل عنها منذ طفولتها وحتى اليوم.
هروب
لم تكن( أم رانيا) اسم مستعار تعلم بأنه سيأتي اليوم الذي تهرب به مع طفليها من المحافظة التي تعيش فيها منذ طفولتها هاربة من وصمة عار تلاحقها لم يكن لها ذنب فيها، فالحصول عليها طفلة رضيعة بداخل كرتون لم يكن جرماً اقترفته، بل قدرها أن تولد مجهولة النسب، مع ذلك فإن العوض يأتي كبيراً في الحياة، فقد منيت بأبوين لا ينجبان تبنيانها وأصبحت ابنتهما الوحيدة، حتى كبرت وكانت لهم الابنة المطيعة والمحبة.
تعلمت( أم رانيا) وعملت في أشغال عدة لتساعد والديها في تكاليف العيش، خاصة بعد أن فقد والدها بصره، أكملت التعليم الجامعي بمساعدة وإصرار والدتها التي حرصت أن يكون لابنتها شهادة جامعية تسندها خاصة وأنه ليس لها أحد في هذه الحياة سواهما وهما مسنين لا حول لهما.
نشأت (أم رانيا) اسم مستعار وتربت على أن تكون شخصية قوية تعاند ظروف الحياة وتسعى للحصول على ما تريد معتمدة على نفسها في تسيير الكثير من أمور حياتها وحياة والديها المسنين.
علاقة مسمومة
تلك الشخصية القوية جذبت أحدهم إليها فأعجب بها وبعد فترة طلبها للزواج، فأخبرته بحقيقة كونها “لقيطة” ولكنه لم يأبه لذلك وأكد لها أنه يريدها هي ولا يعنيه بقية التفاصيل، لكن الأمر اختلف بعد الزواج بسنوات قليلة، وبعد أن أصبحا أبوين لطفلين، بدأ بافتعال المشاكل، والشك الغير مبرر، إلى أن ساءت العلاقة بينهما فقررت هي أن تتخلص من هذا العبء الذي يكاد يجهز عليها.
إلا أن عار”اللقيطة” الذي كان يلاحقها في الحي الذي كانت تقطنه، وفي عملها، وعند أصدقائها، لم يدعها وشأنهأ، فقد بدأ طفليها يكبران وهو ما جعلها تفكر مليا بالهروب بهم من تلك المنطقة التي يعرف الجميع بقصتها إلى مكان لا أحد يعرف عنها شيء خوفاً من أن يعرف أطفالها ويتأثرون سلبا بالخبر.
انهارت(أم رانيا) اسم مستعار وهي تحدثنا عن قصتها، وكان الألم بادياً عليها، فقد عانت من الكلام الذي كان يقال لها حتى من أقارب والديها خاصة بعد أن قرر والدها أن يكتب لها بيته باسمها وهو ما أثار حفيظة إخوانه، لكنه لم يعتبرها يوماً سوى ابنته ولم يرد أن يكون هو والزمان عليها، فالبيت يعد مصدر أمان لامرأة مطلقة، لا أهل ولا سند لها في الحياة.
يزداد خوف (أم رانيا) اسم مستعار من أن يأتي اليوم الذي يعرف فيه أبنائها حقيقتها، ليس هذا فحسب، بل إنها تخاف على مستقبل ابنتها كونها أصبحت مقبلة على الزواج، وخوفها يتمثل فيما إذا تقدم لها أحد وعرف بأن والدتها لقيطة.
مخاوف كثيرة تراود (أم رانيا) مع ذلك تعود لتتذكر أن ذلك قدرها ويجب أن تؤمن به وأن تعيش حياتها بشكل طبيعي حتى لا يتأثر أبنائها بماضٍ ليس لها يد في صناعته.
ضغوط نفسية
لاشك أن مجهولة النسب “اللقيطة” تواجه العديد من الضغوط النفسية والمجتمعية التي من شأنها أن تدخلها في دوامة من الحزن والألم الدائم، بل واهتزاز الثقة نتيجة النظرة الدونية التي تراها في أعين الكثير ممن يعرفون قصتها، فالضغوط النفسية بحسب المعالجة النفسية ( نورا خالد عبد المغني) مديرة مركز العلاج والدعم النفسي بمستشفى الامل للطب النفسي تتمثل في مشاعر الرفض والهجر لأنها تعاني من شعور عميق بالرفض من قبل والديها البيولوجيين، الشعور بالنقص، بعض الاضطرابات النفسية كالاكتئاب والقلق بسبب شعورها بالوحدة، كذلك شعورها بالاختلاف عن الآخرين ، والأسوأ من ذلك هو تدني احترامها لذاتها بسبب شعورها بأنها أقل قيمة من الآخرين وهو ما يعني أزمة الهوية.
ضغوط مجتمعية
ضغوط اجتماعية أخرى قد تواجهها اللقيطة بحسب (عبد المغني) مثل الوصمة الاجتماعية والتمييز، كذلك النظرة السلبية من قبل المجتمع ل “اللقيطة” في مجالات عدة تكون حاضرة فيها كالتعليم والزواج، والعمل، وربما قد تواجه صعوبات في علاقاتها مع العائلة التي تبنتها وتربت لديها، ولا شك حرمانها من الحقوق.
ومن ضمن الضغوط المجتمعية التي تعانيها “مجهولة النسب” إذا تزوجت فهي تواجه حرباً نفسية مضاعفة في حال صادف أن من ارتبطت به شخصاً غير مسؤول عن كلامه، وأناني يتعمد إهانتها باستمرار ومعايرتها بأنها “لقيطة” مستخدماً ألفاظاً جارحة، خاصة بعد مرور فترة من الزواج، على الرغم من أنه كان متقبلاً لها بل وراغباً غير كاره للارتباط بها، حول السبب في هذا التعنت من قبل الزوج تقول (عبدالمغني) :” السبب يعود إلى الوصمة الاجتماعية حيث يكون هناك نظرة سلبية تجاه المرأة اللقيطة، مما قد يؤثر على الزوج بمرور الوقت، قد يتعرض لضغوط من العائلة أو المجتمع، مما يؤثر على نظرته لزوجته مع مرور الوقت”.
وتضيف (عبدالمغني) أن العلاقة يتخللها مع مرور الوقت الشك والخوف، وكثرة المشاكل، وانعدام الثقة ، وصعوبة في التواصل بين الزوجين، إضافة إلى عدم الأمان والقلق من طرف الزوج على هوية الزوجة، بسبب الشكوك والخوف من ماضيها أو مستقبلها.
ومن أجل حماية حقوق مجهولي النسب والسماح لهم بالعيش دون قلق أو خوف من نظرة المجتمع ومعايرته، ترى (عبدالمغني) أنه من الضروري أن يتم سن قوانين تحمي حقوق مجهولي النسب، سواء في التعليم، أو العمل، أو الرعاية الصحية وغيرها، وتدعو إلى ضرورة توفير الدعم القانوني لهم في حالات التمييز، كذلك أهمية توفير الدعم النفسي والاجتماعي، والتركيز على بناء الثقة بالنفس والتقدير الذاتي لديهم، وتزويدهم بالأدوات النفسية للتعامل مع التحديات المجتمعية والعاطفية التي قد يواجهونها.
حقوق اللقيط في القانون اليمني
ينص قانون الأحوال المدنية والسجل المدني في اليمن لسنة 1991م في المادة (27) على إلزام مراكز وأقسام الشرطة والمؤسسات و الملاجئ المعدة لاستقبال الأطفال حديثي الولادة (اللقطاء)، بإبلاغ إدارة فرع المصلحة المختص عن كل طفل حديث الولادة عثر فيها عليه أو سلم إليها وعلى مدير الأحوال المدنية بموجب القانون أن يسمي المولود تسمية كاملة، ثم يقيده في السجل الخاص بالمواليد، ولا يذكر أنه لقيط، وترك خانة الوالدين بغير بيان فيها إلا إذا تقدم أحد الوالدين بإقرار أبوته، فتملأ الخانة الخاصة بالمقر.
هذا النص يحرم الطفل(اللقيط) من شهادة الميلاد بسبب ترك خانة الوالدين فارغة بحسب المحامي (عمار الشامي) الذي يرى أن القانون الخاص بالأطفال مجهولي النسب يعد سيئاً جداً، كما يرى أن النظر للأطفال مجهولي النسب بأنهم أبناء خطيئة ومعاقبتهم على جريمة لم يرتكبوها يعد خطأ وجريمة.
ويشدد (الشامي) على ضرورة سن قانوناً خاصاً بمجهولي النسب يتم فيه معالجات جميع القضايا المتعلقة بهم أسوة بكثير من الدول.