بائعات اللحوح.. قصص تتحدى الفقر والمضايقات

شارك المقال

مشاعر نبيل _ نسوان فويس


تحت أشعة الشمس الحارقة، وعلى أرصفة الشوارع بصنعاء تنتشر نساء تجمعهن المعاناة، والقدرة الإستثنائية على تحدي الألم والعمل من أجل إعالة أسرهن.

هذه المهنة، تعمل فيها النساء بمختلف أعمارهن، و تستمر طوال العام، كما تستمر صور المعاناة والكفاح أيضًا.

كنوز محمد (20 عامًا) تعمل في بيع اللحوح في أحد أسواق صنعاء، تقول “أجبرتني ظروف الحياة ترك المدرسة في الصف التاسع، والخروج للعمل في بيع اللحوح، لأغطي إحتياجات إخوتي الصغار، وأشتري أدوية أبي الذي يعاني من صمامات القلب، وأختي المصابة بالسرطان من قبل”.

وتتابع: اخترت العمل في صنع وإعداد اللحوح كونه لا يتطلب مني -رأس مال كبير وهو ما لا نمتلكه- لأننا بعد مرض والدي الذي كان يعمل لإعالتنا فقدنا دخل الأسرة، وأصبحنا نفتقر لقوت يومنا.

رحلة التحضير


تتحدث أم محمد (٦٥ عامًا) عن رحلتها لإعداد اللحوح فتقول: بداية أقوم بشراء أنواع مختلفة من الذرة كالبيضاء والصفراء والحمراء، وأحرص أن تكون الذرة التي أشتريها من محافظة إب كي أضمن جودتها، من ثم أبدأ بمرحلة التصفية والتنقية، ثم التحميص والطحن حتى تأتي مرحلة العجن ويتم إضافة الماء والخميرة والملح للدقيق ومن ثم عجنه وتركه “يتخمّر” من ساعة إلى ساعتين ثم أبدأ المرحلة الأخيرة وهي خبز اللحوح على الحطب.

وتفيد أم محمد، التي تبيع اللحوح في إحدى الجولات بصنعاء، “أعمل في إعداد وبيع اللحوح منذ 40 عاماً، لقد خبرت و أتقنت هذه المهنة، كنت في بداية الأمر أساعد زوجي في تكاليف الحياة، لكنها أصبحت مصدر دخلنا الوحيد بعد أن فقد زوجي عمله وكبُر في السن فبقيت مجبرة على العمل لتوفير إحتياجات المعيشة لأبنائنا، حتى كبروا وأسّس بعضهم أسرته، ولكني لا أرغب في التوقف عن بيع اللحوح، لقد أصبح جزء من شخصيتي وحياتي، لكنني في السنوات الأخيرة أصبت بحساسية وكبرت على تحمل الدخان، وأوكلت مهمة خبز اللحوح لزوجات أولادي”.

وتوضّح: “خفّ إقبال الناس على الشراء مقارنة بالأعوام السابقة، وحتى في موسم رمضان الماضي قلّ البيع رغم أنه أفضل مقارنة بالأيام العادية، عندما لا أتمكن من بيع الكمية كاملة أحرص على إعطاء المحتاجين والذين لا يمتلكون نقودًا للشراء، “لأني أشعر براحة عندما أعطيهم ولكي يكتب لي ربي الأجر”.

من جهتها تضيف كنوز محمد “أستيقظ الساعة الخامسة صباحاً لأبدأ بإعداد اللحوح في الأيام العادية، ومن ثم أذهب لبيعه

مصدر دخل


يقول الصحفي الاقتصادي، رشيد الحداد، إن اللحوح من المخبوزات اليمنية التقليدية والمتوارثة وهي توفّر فرص العمل للأسر اليمنية في محافظات عدة منها صنعاء، وتعتمد عليها الأسر المعدمة في معيشتها.

ولفت الحداد إلى أن بعض المخابز والمعامل حاولت منافسة المشاريع المنزلية في صناعة خبز اللحوح إلا إنها فشلت، خاصة وأن صناعة اللحوح في اليمن فن تتقنه الكثير من النساء.

تتحدث رقية (22 عامًا) “حينما حاصرتنا الظروف من كل مكان وفقدت والدتي الأمل بعد وفاة والدي، ولم يكن هناك خيار أمامي إلا أنني اتحرك واتحمل مسؤولية إعالة والدتي وإخواني الصغار..

تضيف: كنت صغيرة بلا خبرة أو شهائد بعد أن توقفت عن الدراسة في الصف الخامس، وبدأت رحلة الكفاح من أجل لقمة العيش لي ولأسرتي.. فكرت بتعلّم كيفية إعداد اللحوح وبيعه، وتمكّنت من إعالة إخواني الستة؛ وتحمّل مصاريف مدارسهم، وأنا أرى بعيونهم حلمي المفقود في إكمال تعليمي”.

مضايقات


من أكثر الأمور التي تزعجني وتجعلني أغضب، هي كثرة المضايقات التي أتعرّض لها باستمرار أثناء عملي في سوق باب اليمن، منهم من يعمل بالسوق هنا، وبعضهم لمجرد أنه يرى بنت تعمل، يفكر بمضايقاتها أو الإساءة لها؛ لكنني احاول بكل الطرق أن أتعامل معهم بصرامة وبجدية، وعندما يتمادى أحدهم بالمضايقات أذهب إلى قسم الشرطة وأشتكي عليه.

أم محمد، تشير أيضًا إلى أن العديد من الشابات اللاتي يخرج لبيع اللحوح يتعرّضن لكثير من المضايقات، وهو ما دفع بعدد منهن إلى التعامل مع أصحاب البقالات والمحلات التجارية بدلًا من الخروج بأنفسهن لبيع اللحوح.

وتشير أم محمد أن تلك الطريقة تحرمهن من العائد الذي قد يحصلن عليه نتيجة تقاسمه مع ملاك البقالات والسوبر ماركت، وفي كثير من الأحيان لا تُباع الكميات كاملة وهو ما يكلّف الكثير ولا يعود بالعائد المفترض، وفي أحيان أخرى يؤدي هذا إلى توقّف تلك الأسر عن صنع اللحوح وحرمان الكثير منها من العمل في هذه المهنة نتيجة المضايقات.


ببراءة وعيناها تلمع اختتمت رقية حديثها “أنا أحب أرسم الحناء على أيدي الفتيات، أجد نفسي شغوفة بهذه المهنة أكثر من بيع اللحوح، أتمنى أن أصبح منقّشة؛ وأتمنى أن يكون لي منزل يأويني أنا وإخوتي، وأن يكون لدي سيارة خاصة بي، وأعيش كإنسانة أفضل مما أنا عليه اليوم”.

أما كنوز فكانت آخر جملة قالتها وهي تتنهّد “كان لدي مستقبل وكانت لديّ طموحات لكن ما إن مرض أبي وتركت دراستي أصبحت أرى مستقبلي بين اللحوح ولا أفكر حتى بتغيير مهنتي، أشعر أن قلبي منكسر”.

هوية ثقافية


تقول سوسن ناجي، باحثة مجتمعية، إن الأسر العاملة في صناعة اللحوح تدرّب الفتيات منذ صغرهن على كيفية صنعه بشكل تقليدي ودقيق، ويتم نقل الخبرة والتقنيات من الأجداد والآباء للأبناء والأحفاد.

ترى ناجي أن هذا يضمن استمرارية عملية صنع اللحوح والحفاظ على جودتها وتقاليدها، وتضيف: يلعب الحفاظ على المواد الخام التقليدية التي تستخدم في عملية التحضير دورًا مهمًا في الحفاظ على طريقة صنع اللحوح اليمني المميز”.

علاوة على ذلك، تلعب القيم الثقافية والإجتماعية دورًا كبيرًا في دعم حفاظ المجتمع اليمني على طريقة صنع اللحوح. يعتبر اللحوح في اليمن رمزًا للضيافة والتقاليد والاتصال الإجتماعي، وبالتالي، يحظى بالاحترام والقيمة في المجتمع. هذا يشجّع على استمرارية إنتاج واستهلاك اللحوح” وفقًا لسوسن.

تشتهر مخبوزات اللحوح في اليمن، وتختلف من محافظة ومنطقة إلى أخرى من حيث المكونات والشكل النهائي والطعم أيضًا، اعتمادًا على المواد الأولية المستخدمة في صناعته، ومنها الذرة، وتنوّعها من مكان لآخر، وصولاً إلى اللمسات التي تتميّز بها منطقة عن أخرى.

مقالات اخرى