أمل وحيش – نسوان فويس
(تعددت الأسباب والموت واحد (لسان حال كثير من اليمنيين الذين تقطعت بهم سبل العيش في بلد حصدت فيه الحرب أرواح أبنائه قبل أجسادهم، فمنهم من فُقد في الحرب، ومنهم من ما يزال يحاول كبح جماح الموت عنه بكل ما أوتي من قوة نتيجة لسوء الظروف الاقتصادية، وآخر أنهكت أعباء الحياة روحه، وضاقت به الدنيا بما رحبت، فقرر إنهاء حياته هرباً من واقع مُر فُرض عليه.
الانتحار مرفوض شرعًا وقانونًا وفي كل الأعراف والأديان السماوية التي تأمر جميعها بالحفاظ على النفس البشرية التي تعد أمانة والاعتداء عليها جريمة، ولكنه الحل بالنسبة للكثير ممن باءت محاولاتهم في مجاراة الحياة وضغوطها بالفشل.
لأسباب أو لأخرى سمعنا مؤخرًا عن العديد من حالات الانتحار ومن ضمنها حالات لنساء أقدمن على التخلص من حياتهن، ومنهن من حاولن وتم إنقاذهن، وأخريات فكرن ولكنهن تراجعن، وآخرها كان العثور على امرأة مشنوقة مطلع أغسطس في حي الروزميت بعدن، ومحاولة أخرى الانتحار بعد قتلها لبناتها في عمران، وحالات كثيرة لم تظهر للعلن بسبب التستر عليها أسريًا ومجتمعيًا.
الجو الأسري
حاولت الانتحار ثلاث مرات وآخرها (قبل شهور )، هي لا تتحدث متفاخرة بما أقدمت عليه، وإنما بغصة وحرقة على نفسها أخبرتنا (ر.ح) شابة في بداية العشرينات أن هناك أسباب كثيرة دفعتها للانتحار وأبرزها الضغوط الأسرية والوضع المعيشي، إضافة إلى وجود شخص في الأسرة كان هو السبب الأكبر لتعرضها لأزمة نفسية ولكنها فضلت عدم ذكر تفاصيل، واكتفت بالتأكيد على أن الجو الأسري يعد أحد أهم الأسباب التي تجعل الأبناء يفكرون في الانتحار خاصة الفتيات.
بسبب الحالة التي وصلت إليها ومحاولتها الانتحار أكثر من مرة لجأت ( ر.ح) لأحد مراكز الصحة النفسية بصنعاء، ولكنها كما تقول لم تستفد فقد كانت هي من تتابع الأطباء والصحيين لمتابعة حالتها، فقررت أن لا تعود إليه، وبعد محاولات ثلاث للانتحار إحداهن بقطع الوريد وشاء القدر في كل مرة أن يُكتب لها عمر جديد، وبابتسامتها الجملية التي كانت ترتسم على محياها طيلة حديثها معنا وإن كانت تخبئ خلف جدران القلب أوجاعًا كثيرة، إلا أنها عادت لتقاوم ضغوط الحياة بصلابة، والتحقت بالجامعة في أحد التخصصات الطبية، وتعمل حاليًا في مجال تحبه ويدر عليها وعلى أسرتها دخلًا جيدًا وإن لم يكن بالقدر المطلوب إلا أنه يساعد بشكل كبير في مصاريف دراستها الجامعية، وكذلك يساعد أسرتها في مسؤوليات البيت.
فقدان السيطرة
“تعبت، تعبت، ضاقت بي الدنيا، ما عاد دريت من فين ألاقيها من عيالي، ولا من مرض أمي وأبي، ولا من العمل وهمه ومشاكله ولا من فين” هكذا تحكي لنا (أم ميار) اسم مستعار السبب الذي دفعها لشرب شريط كامل من دواء كانت تتناوله، وكادت تفارق الحياة لولا تدخل أحد أصدقاء العائلة بعد استغاثة أبنائها به، ونُقلت بعدها للمركز الصحي وهناك تم إجراء الاسعفافات اللازمة، وتم تدوين الحالة على أنها كانت بالخطأ ولم تخبر الطبيبة بالجرعة التي أخذتها خوفًا من تقييد حالتها كمحاولة انتحار، وتقول بأن الضغوط النفسية التي تعيشها والناجمة عن سوء الوضع المادي هي من أوصلتها لفكرة الخلاص، فهي مطلقة وتعيل أسرة مكونة من خمسة أفراد يحتاجون لمصاريف كثيرة، ورعاية صحية خاصة لوالدها المريض وراتبها لا يكفي، وهو ما جعلها تفكر كثيرًا حتى تعبت من كثر التفكير وكان قرارها هو الانتحار اعتقادًا منها بأنها سترتاح حسب قولها.
مضطربة نفسيًا
تعاني (ه.أ) من محافظة إب من اضطراب نفسي منذ ما يقارب 7 سنوات، وقد أصيبت بحالة نفسية بحسب كلام والدتها بعد زواجها الأول الذي لم يدم طويلًا نظرًا لأسلوب المعيشة التي صدمت بها عند زفافها، فقد كانت ترسم في مخيلتها عيشة أخرى إلا أنها أصيبت بصدمة أثرت عليها حتى بعد زواجها الثاني الذي كان يشبه الأول في المعيشة، وبحسب والدتها بأن ابنتها لم تكن راضية ولا قنوعة على الرغم من أنهم أخبروها بكل شيء، وهو ما أدخلها في حالة النكران للواقع، واتهام من حولها بالخيانة والكره لها، كل ذلك جعلها تحاول الانتحار عدة مرات، مرة بشربها (مبيد) يستخدم في رش المحاصيل، ومرة بشنق نفسها، وعلى الرغم من أن عائلتها تتابع حالتها لدى أخصائيين نفسيين إلا أنها لم تتحسن كثيرًا، حتى اضطرت الأسرة لعرضها على أحد المشائخ القراء الذي أخبرهم بأن تعاني من (المس) ويجب أن تتعالج قبل أن تقتل أحدًا منهم أو تقتل نفسها حسب قوله، حيث أنها أصبحت عدوانية في كثير من الأوقات كما تقول والدتها.
ظاهرة إنسانية
” الانتحار ظاهره إنسانيه لا يخلو أي مجتمع منها منذ أن خلق الله البشريه وحتى يومنا هذا ولقد شهد العالم ولا يزال يشهد انتشار كبير للفوضى الاجتماعية والأزمات بكافة أشكالها سواء كانت اقتصادية أو سياسية أو ثقافية نتيجة الحروب المستمرة التي تهدد الناس في كل مكان ” بحسب ما تقول الدكتورة ( جميلة غالب الحيفي) استشارية العلاج والصحة النفسية- مدير عام الصحة النفسية في وزارة الصحة العامة والسكان و مدير عام البرنامج الوطني للصحة النفسية متحدثة لمنصة (نسوان فويس) عن أهم الدوافع الداعية للانتحارقائلة: “عندما نتحدث عن الانتحار فإننا لا نتحدث عن شيء غامض أو ما وراء الطبيعة وإنما نتحدث عن شيء واقعي ملموس حتى أصبحنا نطالع أو نسمع من خلال وسائل التواصل الاجتماعي عند كل إشراقة صباح أو غروبها عن حالة انتحار أو محاولة انتحار” وتنسب ( الحيفي) الأسباب إلى مجموعة من الأحداث المؤثرة التي عصفت بالبلد وأثرت على الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وانعكست سلبًا على معيشة المواطن اليمني.
وتضيف “أدى ذلك إلى خلق حالة من الشعور الحقيقي بعدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وهذا ما نسميه فوضى واضطراب اجتماعي فكان له الأثر الواضح على حياه الناس مما أدى إلى تعرضهم لضغوط مختلفه دفعت بكثير منهم إلى الانتحار أو محاولة الانتحار”.
عوامل أخرى تدفع بالمرء للانتحار خاصة في الآونة الأخيرة أوردتها ( الحيفي) تتمثل بالتفكك الاجتماعي والأسري والظروف المعيشية، إضافة إلى الإدمان وتعاطي المخدرات وتناول القات.
الأثر النفسي
من المعروف أن كثرة الضغوط النفسية التي يواجهها الأفراد قد تضعف شغفهم بالحياة، وتقلل من رغبتهم في البقاء ومواجهة التحديات، وتدخلهم في صراع نفسي وهو ما يجعل الفرد يقدم على الانتحار بحسب (الحيفي) حيث تقول: “كثيرًا ما تلعب صعوبات الحياة وضغوطاتها -وخاصة الضغوط التي تواجه الأفراد الذي يكون جهازهم النفسي ضعيف وهش- تلعب دورًا مهمًا في التأثير على نفسياتهم وتجعلهم يصلون إلى مرحلة متقدمة من العجز في التعامل مع الحياة والتكيف مع المجتمع فيشعرون بالغربة وتنتابهم حالات نفسية قد توصلهم إلى تلك المرحلة التي يقرر فيها الفرد الخلاص من هذه الضغوطات و المشاكل لا من التخلص من نفسه”، وتؤكد ( الحيفي) أن الفرد الذي يفكر بالانتحار يظن أنه ينهي مشاكله الشخصية عندما يقرر إنهاء حياته، وذلك ناتج عن شعوره بالعجز واليأس.
وتضيف: “الرغبة في القتل (يريد أن يقتل) هي من تسيطر على الأنا لدى الشخص وهي أحد جوانب تكوين الشخصية ومضمون هذه الرغبة نزعة عدوانية ووجدان مشحون بالكراهية للذات وقد تكون رغبة في اتهام الآخر أو توبيخه وعقابه والتخلص منه”.
انتحار النساء
حالات الانتحار عند النساء من الموضوعات التي تعتبر تابو -ما لا يحل انتهاكُه و محرم مَسه- بحسب الدكتورة (الحيفي) التي تؤكد بأن حالات النساء المنتحرات قليلة جدًا ولا توجد إحصائيات بذلك، ولكنها بحكم عملها في في الرعاية والدعم النفسي صادفت حالات كانت تفكر بالانتحار، وأخبار مؤكدة من خلال المراجعين عن حالات انتحرت بالفعل من النساء، وحول سبب إقدام النساء على الانتحار تقول (الحيفي): “بعض المنتحرات من النساء أقدمن على التخلص من حياتهن بسبب الشعور بعدم الأمان الداخلي الذي يثير القلق والتوتر والفزع وهذا ما يجعل المرأة تقدم على التخلص من هذا الشعور”. وتشير ( الحيفي) إلى أن المرأة المنتحرة بهذا الفعل لا تتخلص من جسدها وإنما تتخلص من هذا الشعور، وتمارس سلوك عدواني ضد نفسها لتحصل على الأمان الدائم حسب تفكيرها.
جذور المشكلة
وحول جذور المشكلة تقول الحيفي: “تتبعنا بعض جذور حالات الانتحار للمنتحرات فوجدنا أن من كانت تمارس أو مُورس عليها سلوكيات شاذه ك(الاتصال الجنسي) وفي بعض الحالات الخاصة والقليلة جدًا في اتصال جنسي ب (المحارم) هذه الأحداث جعلتهن ضحية الإقدام على الانتحار”.
لا تعد حالات الانتحار لدى النساء قليلة مقارنة بالرجال على المستوى العالمي حيث يفوق عدد الذكور الذين يموتون بسبب الانتحار ضعفي عدد الإناث بحسب منظمة الصحة العالمية، إلا أن هناك حالات انتحار حصلت في أوساط النساء، ولكن الملاحظ أن الفتيات المراهقات هن الأكثر إقدامًا على الانتحار نظرًا لعدم وجود خبرة حياتية سابقة لديهن، إضافة إلى عدم النضج الانفعالي والمعرفي ما يجعلهن يحبطن سريعًا ولا يقدرن على مواجهة المشاكل بسهولة كما تفعل النساء أو السيدات الناضجات عقلًا وعمرًا اللواتي استطعن مواجهة الكثير من المشاكل والتحديات رغم وصولهن لمراحل كبيرة من الاكتئاب واليأس والإحباط، ومع ذلك قاومن ولم يفكرن بالانتحار بحسب الدكتورة (الحيفي
كيف نحد الانتحار؟
ترى الدكتورة (جميلة الحيفي) بأن الأسرة هي مصدر الأمان الذي من خلالها يستطيع المجتمع الحد من ظاهرة الانتحار حيث تقول: “يجب أن تكون البيوت والأسر مكان آمن ومكان فيه من الراحة و الاستقرار، وفيها جو عالي من التفاهم والتعايش وحل الخلافات بالنقاشات الهادئة”.
كما تشدد على ضرورة إقامة علاقة متزنة وسوية ما بين الآباء والأبناء، وبين الأزواج والزوجات، وتنوه إلى ضرورة عدم إرغام الفتيات على الزواج، وتدعو إلى إيجاد فرص عمل للشباب والشابات حتى تكون حياتهم أكثر استقرارًا عاطفيًا وماديًا.
وتشير (الحيفي) إلى أهمية وجود مراكز تأهيل نفسي للشباب والفتيات لمواجهة صعوبات الحياه بشكل أكبر والتقليل من الخلافات المستمرة التي تنشأ بين الأزواج خاصة في السنوات الأولى من الزواج، مقترحة إنشاء مراكز إرشاد زوجي حد تعبيرها واختبارات ما قبل الزواج من الناحية النفسية للتخفيف من الضغوطات والأحداث التي تحصل في الأسرة، إضافة إلى أهمية توعية الناس بضرورة التخفيف من ممارسة العنف اللفظي والجسدي على المرأة.
وتؤكد (الحيفي) على ضرورة تفعيل دور الدين في حياة الشباب والفتيات لأن ذلك يسهم في التنشئة الاجتماعية السوية من خلال تقوية إيمان الفرد بشكل أكبر حتى تكون هناك ما أسمته (المنعة النفسية والصلابة) لمواجهة الحياة والابتعاد عن التفكير بالانتحار.
وأخيرًا تطالب الدكتورة (جميلة غالب الحيفي) استشارية العلاج والصحة النفسية- مدير عام الصحة النفسية في وزارة الصحة العامة والسكان و مدير عام البرنامج الوطني للصحة النفسية بتوطيد العلاقة بين الآباء والأبناء والأزواج، وتعليم الأبناء والبنات والشباب والرجال والنساء كيفية حل المشكلات وكيفية المواجهة الحقيقية للمشكلة دون الهروب أو التلاعب النفسي بما يحدث معهم حسب قولها.
أرقام ليست حديثة
هذا النفوجرافيك يوضح أعداد حالات الانتحار حسب تقرير منظمة الصحة العالمية وتقارير محلية.
تضيف المنظمة أنه في كل عام يضع 703000 شخص نهاية لحياته، غير أن هناك حالات لانتحار أكبر مماهو مذكور لم يتم الوصول إليها ورصدها على مستوى العالم.
كما أكدت المنظمة في يونيو 2021 أن ظاهرة الانتحار تأتي في المرتبة الرابعة من الأسباب المؤدية إلى الوفاة -بعد حوادث مواصلات النقل، ومرض السل، والعنف الناتج بين الأفراد- في فئة الشباب بين عمر 15 إلى 29 عامًا، بينما يفوق عدد الذكور الذين يموتون بسبب الانتحار ضعفي عدد الإناث.
ويعد الانتحار أكثر انتشارًا بين فئة الرجال في البلدان ذات معدلات مرتفعة في دخل الفرد، فيما تسجل الإناث نسبة أعلى في الدول متوسطة الدخل.
هذه الأرقام تعد جزء مما تم رصده، أما اليوم وبسبب الصراع المسلح والوضع الاقتصادي المتدهور الذي جعل اليمن تشهد أسوأ أزمة إنسانية في التاريخ الحديث، لاشك أن الرقم أكبر بكثير مما كان عليه في 2016م .
على الرغم من أنه لايوجد احصائيات وأرقام بعدد حالات الانتحار إلا أن الملاحظ أنها في تزايد مثير للقلق خاصة في السنوات الأخيرة، ومن هذه الحالات ما تم رصدها عبر وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وهي حوادث مرعبة، ويبقى هناك حالات لا تظهر للعلن لأسباب اجتماعية شتى، ومثل هذه الظاهرة تحتاج لتظافر جهود الجميع وعلى رأسهم الدولة، ووسائل الإعلام، والأسرة، والمجتمع المحيط للحد من ظاهرة الانتحار التي باتت تؤرق الجميع.