أمل وحيش – نسوان فويس
بات مألوفًا لنا جميعًا منظر الأطفال وهم يبيعون في الجولات، والحدائق، ويعملون في تنظيف زجاج السيارات، وفي ورش النجارة، وهم عمال بناء يحملون على كاهلهم ثقل الحياة، وغيرها من الأعمال التي لا تتناسب مع أعمارهم، فمنهم من أجبرتهم الظروف لترك طفولتهم ومدارسهم للبحث عن لقمة عيش لهم ولعائلاتهم، ومنهم من أجبرهم أهاليهم على الخروج عنوة تاركين وراءهم طفولتهم وبراءتهم مرتدين ثوب الشقاء وتحمل المسؤولية قبل الأوان.
عمالة الأطفال في اليمن ظاهرة ليست بالجديدة، ولكن الجديد فيها أنها باتت تتسع يومًا بعد يوم خاصة في ظل الأوضاع المعيشية والظروف الصعبة التي تعيشها البلد، هناك قصص كثيرة ومؤثرة لأطفال لم يكن اختيارهم الشارع بل كان تحت وطأة الظروف ووجع الفقر.
عشرة أخوة وأب فاقد للأهلية
(رغد) طفلة في التاسعة من عمرها في الصف الرابع الابتدائي تتحدث متنهدة كأنها امرأة كبيرة عاصرت أوجاعًا تليدة، لتعلل سبب خروجها للعمل وهي في هذا السن لمواجهة الحياة وبطشها (بالظروف) التي أجبرتها على أن تخرج لتبيع المناديل للمارة يوميًا، وفي يومي الخميس والجمعة تبيع لهم الورود نظرًا لازدحام الحديقة في أيام الإجازة.
أجبرتها الظروف ولم تختر ذلك بإرادتها، فخرجت لمساعدة والدتها وشقيقها الذي يكبرها بثلاثة أعوام ويعمل في مسح السيارات ليبذلا مع والدتهما جهدًا مضاعفًا لأن رب الأسرة أصيب بالجنون منذ سنوات، فما كان من الزوجة إلا أن تخرج منذ الصباح الباكر وتفترش لها مكانًا بالقرب من أحد المطاعم في صنعاء وتعرض بضاعتها البسيطة للمارة، وهي عبارة عن مناديل وشوكولاتة إلى أن يحين وقت الظهر فتعلن انصرافها للبيت لتفقد أطفالها العشرة، ومن بينهم (رغد) التي كانت تعتني بإخوانها في الفترة الصباحية، ليأتي دورها في البدء برحلة البحث عن مصروف اليوم التالي، فتتجه هي وشقيقها إلى بيت خالهم لاصطحاب ابنة خالهم (ملك) ذات العشرة أعوام منطلقين نحو البحث عن الرزق حاملين معهم همومًا لا يطيقها الكبار.
ما خرجتنا إلا الظروف
تقول رغد إنها لم تخرج باختيارها ولم يكن بضغط من والديها وإنما هي الظروف من أجبرتها فلولا إيجار البيت الذي يأوي أسرة مكونة من 12 فردًا ومطالبة صاحبه ب 70 ألف شهريًا لكانت رغد أميرة في مملكتها: “ما خرجتنا إلا الظروف حق إيجار البيت، لو معنا بيت ملك في أي مكان بجلس فيه ولا بخرج بس الظروف حقنا قاسية”.
كلام وثناء لله وتأدب في الحديث وأنت تحاورها لا تكاد تصدق أنها طفلة في التاسعة، ختمنا معها الحديث عن سؤالها ما إذا كانت تتعرض للمضايقات لتؤكد لنا أن هناك بعض المضايقات من أبناء جيلها الذين يعملون في ذات المجال، إلا أنها تخبر أخيها أو تتركهم وشأنهم وتنصرف هي لتكمل مسيرها للبحث عن مشترٍ جديد يخلصها من ثقل اليوم لتعود بعد أذان المغرب لترمي هموم يوم منهك، وترتاح في بيتهم الذي تترقب في كل وقت صاحبه متى سيطرق الباب مطالبًا بالإيجار.
قوارير المياه
رفيقتها (ملك) ذات العشرة أعوام تدرس معها في نفس الصف ترافقها يوميًا ليبيعا معًا المناديل لزوار الحديقة، وكما أكدت (ملك) أن دخل بيع الورود أفضل من بيع المناديل لأنهما في يوم الخميس والجمعة تكسبان مبلغًا جيدًا يتجاوز 3 آلاف ريال وهذا مبلغ كبير يدخل البهجة لقلبيهما، فملك لديها ستة أخوة، ووالدها يعمل في جمع قوارير المياه وبيعها برخص الثمن، فذلك العمل لا يدر دخلاً جيدًا وبالتالي غير كافٍ لأسرة مكونة من 8 أشخاص، فاضطرت للخروج مع ابنة خالها (رغد) للعمل معًا ولتعتني كلاً منهما بالأخرى، رغم صغر سنهما إلا أنهما تبدوان واثقتان من نفسيهما، وتتحدثان بلباقة، وكأن لسان حالهما يقول لولا جور الزمان لما كنا هاهنا.
أبي مجنون
تفترش كرتونًا تجلس عليه، وتضع أمامها كراتينها التي تحوي بضاعتها البسيطة، بالقرب من السفارة الليبية بشارع حدة، وجدتها تصارع حرارة الشمس وتقاوم لهيبها، منتظرة أن تحل ساعة الخامسة لحظة البدء بهروب الشمس وحلول الظل بديلًا
(إيناس) طفلة في الثالثة عشر من عمرها تعمل في بيع المناديل والشكولاتة للمارين من ذلك المكان، لكنها كما تقول خرجت للعمل منذ عامين تقريبًا، ولم تخرج إلا بسبب مرض والدها بالجنون وهو ما جعلها تخرج لتساعد والدتها في مصاريف البيت، وتقول إنها لا تتعرض للمضايقات، أحيانًا لا أحد يشتري منها إلا بعض الأشخاص، ورغم تكبدها عناء الجلوس تحت حر الشمس نهارًا إلا أنها تقول “الحمد لله ربك يعين”.
أطفال حُرموا من طفولتهم وتحملوا أعباءً لا طاقة لهم بها، وما يزيد الأمر سوءًا هو استغلال بعضهم وجعلهم يعملون في مجال لا إنساني يشوه وجه المدن وهو التسول، وأحيانًا ما يكون البيع إلا حجة من أجل التسول وإحراج الناس لإعطائهم.
ظاهرة مسموح بها ولكن…!
تقول الإعلامية ورئيسة مؤسسة سام للطفولة والتنمية (بثينة القرشي) إن ظاهرة عمالة الأطفال تعد واحدة من الظواهر المنتشرة في المجتمع وتؤكد أن عمالة الأطفال مسموح بها من قبل القانون الدولي والشرعية الدولية ولكن يشترط فيها أن يتناسب العمل مع الطفل، ويوصي القانون الدولي بضرورة منح الطفل أجره كاملًا مثله مثل الكبار، كما أن من هذه الشروط عدم إشغال الأطفال في أعمال خطيرة قد تؤثر على نمو أجسامهم.
أسباب
وعن السبب الرئيس وراء انتشار هذه الظاهرة ترى (القرشي) بأن الحرب التي تمر بها البلد منذ ثمان أعوام، إضافة إلى سوء الحالة الاقتصادية، والنزوح، وفقد ولي الأمر لمصدر دخله بسبب الحرب، أو فقدان المعيل، وانقطاع الرواتب، كلها أسباب أدت إلى خروج الطفل لسوق العمل مجبرًا كونه يتحمل مسؤولية أسرة.
عواقب
وعن العواقب التي قد تنال الطفل وخاصة الفتيات جراء الخروج للعمل تقول (القرشي) إن الخطورة تكمن في تعرض الأطفال للتحرش خاصة الفتيات، كما أنه قد يتم استغلالهم في امتهان التسول الذي تعتبره إهانة لكرامة الطفل التي حفظها القانون والدستور.
يذكر أن مؤسسة سام للطفولة والتنمية تأسست في العام 2010 وهي مؤسسة اجتماعية تنموية خيرية تهدف لخدمة المرأة والطفل ودعم المشاريع الصغيرة، وتهتم بتوعية أولياء الأمور بأهمية المحافظة على أطفالهم ومصالحهم.
أرقام وحقائق
تعرف الأمم المتحدة عمالة الأطفال: بأنها أعمال تضع عبئًا ثقيلًا على الأطفال وتعرض حياتهم للخطر. وبدورها عملت اتفاقية منظمة العمل الدولية على حظر العمل عن الأطفال الأقل من 18 عامًا، عندما يشكل العمل خطرًا على صحة الطفل الجسدية أو النفسية.
في تقرير حديث 2021 صادر عن منظمة العمل الدولية والأمم المتحدة، يشير إلى ارتفاع هو الأول من نوعه منذ عقدين لعمالة الأطفال في العالم. ويؤكد التقرير أن عدد الأطفال العاملين ارتفع بنحو 8.4 مليون طفل عامل، خلال السنوات الـ 4 الماضية فقط، مع وجود 9 ملايين طفل معرضين لأخطار صحية
ويضيف التقرير أن نحو 28% من الأطفال العاملين يقعون ضمن الفئة العمرية 5-11 عامًا، بينما 35% تتراوح أعمارهم بين 12-14 عامًا، وجميعهم لا يتلقون تعليمًا مدرسيًا.
112 مليون طفل يعملون في قطاع الزراعة، بينما 31.4 مليون يعملون في الخدمات، فيما يعمل 16.5 مليون طفل في قطاع الصناعة.
وبحسب التقرير فإن عمالة الأطفال أكثر انتشارًا بين الفتيات، وتنتشر أكثر العمالة في المناطق الريفية بنسبة 14% وهي نسبة أعلى بثلاث مرات من المناطق الحضرية
وفي اليمن تظل عمالة الأطفال محط تحذيرات مستمرة من قبل المنظمات الدولية التي تحذر من تنامي هذه الظاهرة في بلد يعاني من الصراعات وينهشه الفقر حيث يشهد أعلى معدل لعمالة الأطفال عربيًا بفئة عمرية ما بين 5-14 عامًا، ما نسبته 13.6%.
الفقر، والصراعات المسلحة، وتدني الأجور، وانقطاع الرواتب أهم الأسباب التي أدت إلى تنامي هذه الظاهرة في بلادنا، وسط تجاهل وإهمال واضح لهذه الفئة التي تصارع نوبات الحياة في الوقت التي هي بأمس الحاجة لأن تنعم بطفولة آمنة مطمئنة.