منى محمد – نسوان فويس
مصاعبُ الحياة في الوطن، والظروفُ المادية الصعبة، وقلةُّ فرصِ الحصول على الوظائف، وانعدامُ مصادر الدخل لكثير من الأسر، كل ذلك يدفع الرجل إلى الاغتراب خارج الوطن باحثاً عن لقمة العيش، وتُظهر إحصائية رسمية حديثة صادرة عن وزارة المغتربين اليمنيين أن عدد اليمنيين في الخارج يتجاوز 7 ملايين شخص، ويمثلون أكثر من 28% من إجمالي السكان و40% من إجمالي القوى العاملة.
في الجانب المقابل، تتحمّلُ المرأة أعباء هذه الغُربة، في ظلّ ما يفرضه المجتمع من ضغوط وقيود غالبا ما تؤثر على صحة المرأة الجسدية والنفسية، إضافة إلى أن ذلك يتسبّب في فقدانها لعطف الزوج ومساندته ودعمه، وبالتالي يمتدّ ذلك التأثير إلى الأولاد مستقبلا. تقول أستاذ الإعلام المساعد الدكتورة بلقيس محمد علوان: “بالنسبة للضغوط المجتمعية والأسرية التي تعاني منها زوجة المغترب، سواء المغترب في الداخل أم الخارج، فهناك المغتربون في المدن اليمنية وزوجاتهم في القرى، ويغيبون طويلا بسبب الوضع الحالي للبلاد وصعوبة التنقل فيها، وقد تمتد الغربة الداخلية إلى أشهر، وهناك ضغوط مجتمعية وأسرية على المرأة، أولها الشعور بالوحدة والمسؤولية في الوقت نفسه، خصوصا إذا ما كان لها أطفال؛ إذ تتضاعف مسؤوليتها، وستكون الأم والأب معا، وستكون المسؤولة الأولى عن تعليمهم وعن كل التفاصيل التربوية، ناهيك عن أن الأسرة في ظلّ المجتمع اليمني تتدخّل في كل كبيرة وصغيرة، فيبدأ الجميع يتدخل ويتحكّم وفق معايير المجتمع “اعملي ولا تعملي، ادخلي ولا تخرجي”، وبدلا من استئذانها سابقا من الزوج، ستبدأ في الاستئذان من سلطة جديدة، يمكن أن يكون عمّها أو عمّتها، وستكون أيضا مسؤولة عن ضبط الميزانية التي يرسلها الزوج المغترب، وهذا ليس سهلا عليها، وذلك أن أغلب المغتربين اليمنيين من محدودي الدخل جدا، وبالتالي تكاد تكون الغربة بلا فائدة، لكن لا يوجد بديل داخل اليمن، ولذلك أعتقد أن الضغوط قوية وقاسية، ناهيك عن أنه لا يوجد تقدير للاحتياجات الفسيولوجية والنفسية للزوجة في ظل غياب زوجها، فيكون المطلوب منها كثير من المسؤوليات والالتزامات من دون أن يشاركها أحد، أو يتحسّس احتياجاتها النفسية ووضعها الاجتماعي”.
وترى الصحفية والناشطة في مجال حقوق الإنسان أمل عبد الله أن اغتراب اليمنيين، الذي زاد بكثرة في السنوات الأخيرة، بسبب الحرب التي تستمر للعام الثامن على التوالي وما نجم عن ذلك من تدهور حادّ في الأوضاع الاقتصادية، جعل الحلَّ الوحيد بأيدي كثير من اليمنيين البحثَ عن فُرص عمل خارج البلاد، ولو على حساب الاستقرار والتماسك الأسري، على الرغم مما يحتويه ذلك من مخاطر، خصوصا أن كثيرا من المغتربين غير نظاميين. وتضيف أمل عبد الله قائلة: “حياة الأسر التي يغترب ربّها ليست حياة عادية، فالمرأة في كثير من الأحيان يجب عليها أن تمارس دوري الأب والأم معا، وتتحمّل مسؤوليات، وتقوم بأدوار مزدوجة، وهو ما يزيد الضغوط عليها ويرهق كاهلها”.
المرأة حبيسة العادات والتقاليد
وفي حين ما زالت العادات والتقاليد متحكمةً في حياة كثير من اليمنيين ومصدرا للرجوع إليها في كل صغيرة وكبيرة، تكون المرأة ضحيتها غالبا.
“تزوجتُ في سن مبكر، واضطرَّ زوجي للاغتراب بعد زواجنا بسنتين، ولم أكن قد أنجبت أطفالا. شعرتُ بفراغ كبير، وتعرّضت لضغوط كثيرة فُرضت عليّ من عمّي (أب الزوج). منعني من إكمال تعليمي الذي تركته بسبب الزواج مبكرا، ولم يكن عمّي يسمح لي بالخروج من المنزل إلا إلى بيت أهلي أو المستشفى، ولا يسمح لي باستقبال صديقاتي أو أحد من الجيران، وكل تلك القيود كانت مفروضة على زوجته وبناته أيضا، حتى المناسبات العائلية لا نحضرها إلا إذا كانت في بيت، أما صالات الأعراس فممنوعة”، لم تنته قصة أسماء علي (اسم مستعار) هنا، وتقول: “منعني عمّي من استخدام الهاتف الذكي، واستبدل به هاتف نوكيا بدون كاميرا، بذريعة أني أتواصل مع زوجي بتطبيق الإيمو لمكالمات الفيديو، وأرسل صوري، وهو يخاف من أن يُخترق هاتفي فأُبتز”. وتضيف أسماء: “جاء زوجي زيارة لليمن، وكنتُ أظن أنه الفرج. أخبرني بنيته أخذي معه إلى السعودية حيث اغترابه، وحين أخبر والده بذلك، كانت الصدمة؛ إذ منعني عمّي من السفر مُنهيًا كلامَه (ما فيش عندنا نسوان يروحين بلاد الناس ويرجعين بعادات وتقاليد ما تربينا عليها). حاولنا معه مجددا، لكن من دون فائدة”.
التأثير النفسي والفسيولوجي
إلى جانب التأثير النفسي الذي يلحق بزوجة المغترب وثقل حمل المسؤولية على كاهلها، تأتي الأسرة والمجتمع لتضاعف المعاناة، فليست أسماء الوحيدة التي تعاني من ويلات هذا المجتمع بسبب اغتراب زوجها، فسبأ محمد (اسم مستعار) تحكي قصتها هي وأختها، فتقول: “تزوجتُ ابن عمي الذي كان مغتربا قبل الزواج. ظلّ معي شهرا واحدا بعد الزواج ثم رجع إلى غربته، ورجعت أنا بيت أهلي، وقبلي رجعت أختي بولديها بعد غربة زوجها”. وأضافت: “ظهرت عليّ أعراض الحمل، وبسبب هذه الأعراض كنتُ أحتاج للخروج لتغيير نفسيتي، لكن مُنعت مثل أختي بحكم غياب الزوج، من بعدها أخبرتُ زوجي برغبتي في الالتحاق بمركز تعليم الخياطة والأشغال اليدوية، وقوبل هذا أيضا بالرفض. أما أختي التي كان لديها طفلان، فحتى عندما تحتاج إلى أغراض لأبنائها أو تذهب بأحدهم إلى المستشفى، فلا يمكنها الذهاب إلا برفقة أمي أو أحد أخوتي، ولو كان الأمر طارئا. أطفالها أيضا محرومون من الحدائق والتنزه مع أمهم، ولا يستطيعون ذلك إلا في حالة خروجهم مع أحد أخوالهم”.
شبح العادات والتقاليد
تطمح المرأة إلى الاستقلال دوما والقيام بتربية الأبناء على النحو الذي تراه مناسبا، لكن حياة زوجة المغترب تفتقدها الاستقرار في أغلب الأحيان، فبعد سفر الزوج، ترفض أغلب الأسر أن تعيش الزوجة وحدها في سكن مستقل، فتضطر للعودة إما إلى بيت الأهل وإما إلى بيت أسرة الزوج، لتبقى تفاصيل حياتها الشخصية مفتوحة لكل مَن نصّبته العادات والتقاليد مسؤولا عليها في غياب الزوج، خصوصا في مجتمع لا يعترف إلا بالزوج ربًّا للأسرة، متجاهلا دور المرأة، وهو ما يدفع الأسرة إلى تولي هذه المهمة.
وتشير أمل عبد الله قائلة: “هناك ضغوط مجتمعية ورقابة يفرضها المحيط على المرأة التي يغترب زوجها في حال استقلالها في السكن مع أبنائها، وهناك تحكم شديد وتدخل في حياتها وحياة أطفالها وطريقة تربيتهم إذا ما سكنت مع أهلها أو أهل زوجها، وذلك يجعلها مقيدة وغير حرة في اتخاذ قراراتها واختيار أسلوب الحياة التي ترغب في أن تعيشه، ويُرجع كثير من الأهل سبب فرض هذه القيود على المرأة المغترب زوجها إلى الخوف عليها من كلام الناس والعادات والتقاليد التي تضعها دائما موضع المحتاج إلى التوجيه”.
تقول أحلام عبد الله (اسم مستعار): “أسكنُ مع عمتي أم زوجي وسليفاتي (زوجات أخوة زوجي). جميعنا أزواجنا مغتربون، ويتناوبون بين الغربة والبقاء، فيبقى واحد منهم في كل مرة لرعايتنا، وفي كل مرة يأتي أحدهم لا يذهب إلا وزوجته حامل، وبسبب كثرة الأولاد ضاق البيت بنا؛ إذ لا تملك كل واحدة منا إلا غرفة واحدة، وزادت المشاكل والتعرض للضغوط والقيود من كل واحد من الأخوة حين يكون دوره في رعايتنا، فلا يُسمح لنا بالخروج للأسواق وأخذ احتياجاتنا، فهو يتكفل بجلبها سواء أعجبتنا، أم لم تتوافق مع أذواقنا”.
تضيف أحلام: “في كل مرة تطلب إحدانا من زوجها الاستقلال بالسكن، يرفضون ويقول الأخ الأكبر لهم: (من يريد أن يسكن لحاله فليسكن، لكن لن نعطيه شيئا من أملاكنا وسنتبرأ منه)، علما أن جميعنا نسكن في شقة واحدة في عمارة سكنية هم مُلّاكها، لكنهم قاموا بتأجير شققها بالكامل، ونحن محشورون في شقة واحدة”.
جوانب الآثار النفسية على زوجة المغترب وأبنائها
الآثار النفسية المترتبة على الضغوط الأسرية والمجتمعية التي تؤثر على حياة المرأة بشكل عام وتؤثر أيضاً على الأبناء كثيرة ولها عدة جوانب. تقول أحلام عبد الله: “اغتراب الزوج والضغوط الأسرية والمجتمعية لها آثار نفسية قد تؤثر على سير حياة المرأة وعلى حياة أطفالها، ويحكم على شبابها بالفناء وهي وحيدة، والاغتراب يُحدث فجوة كبيرة بين الأبناء ووالدهم الذي لا يرونه إلا فيما ندر، وربما يستمر غيابه عنهم لسنوات، حتى إن بعضهم يصلون إلى سن المدرسة وهم لم يلتقوا بآبائهم”.
وترى “علوان” أن الآثار النفسية كثيرة، ففكرة أن تكون زوجة المغترب مُقيمة وحدها، أو مع أسرة الزوج، أو مع أهلها ولفترة طويلة تجعل الأسرة هي المسؤولة التي تقرر كل شيء بشأن المرأة والأبناء، بعدها يأتي الزوج الذي قد تمتد زيارته إلى عدة أشهر سواء في الغربة الخارجية أم الداخلية، حينها تتوقع المرأة من زوجها العائد في فترات الزيارة أن يكون مهتمّا بالبيت ويقضي وقته معها ومع أبنائهم، ولكن يحدث العكس، فما إن يصل حتى يسخّر جل وقته للقاء الأصدقاء، وإذا كان من الذين يتعاطون القات، سيكون كل وقته لمجالس القات وصرفياته فيه، يأتي هنا الإحباط، فما توقّعتْه الزوجة لم يحصل، أي حضوره وتعويضها عن الغربة. أيضا قد تكون لديه مساحة تنفيس في العالم الافتراضي، وليس بالضرورة أن تكون سلوكيات غير مقبولة، ولكن الأزواج ينشغلون كثيرا على مواقع التواصل الاجتماعي، بالتالي نرى أن البُعد يؤدي إلى فجوة، سيكون هناك مساحة مجهولة بين الطرفين، وهذه المساحة ستمتلئ بأفكار سواء عند الزوج أم الزوجة، ستبدأ بالشك فيه، وتبدأ تشكو من التقصير واللامبالاة، فيتولّد نوع من الجفاء، بالتالي يكون الوضع محبطا حين يكونون معا وحين يكونون بعيدين، كثير من الحالات تصل إلى قناعة مواصلة الحياة بشكل آلي. زوج مغترب يجمع الأموال ويرسلها لأسرته، وزوجة تقضي حياتها بالتفاصيل نفسها والآلية نفسها، فتصبح الحياة من دون مذاق للطرفين، طرف يعدّ نفسه مسؤولا يعيش من أجل الأفراد الذين يعيلهم، وزوجة عالقة تورطت في زواج وأطفال وأسرة ومسؤولية، وفي نهاية المطاف هم متباعدون، كل هذا يؤثر نفسيا بشكل كبير.
في حالة وجود أطفال، ينعكس هذا التأثير تماماً عليهم، فعدم وجود الوعي الكافي لوضع الغربة المفروض على الأسرة، يتوجب تحجيم الآثار السلبية من جميع الأطراف، من أجل الحفاظ على الود والتواصل والمشاركة، وتبادل المشاعر والأفكار، مشاركة كل التفاصيل التي تُبقيهم على اطلاع دائم، لكن حينما يكون كلّ هذا غائبا، ينعكس التأثير على الأطفال، خصوصاً مع عدم الوعي بالآثار المترتبة، فعندما يكون الأب غير مطلع وغير متابع لدراسة الأبناء واهتماماتهم وانشغالاتهم وأصدقائهم، خصوصا في سن المراهقة، يكون صعبا على الأم أن تحتوي كل هذا، ونحن نتكلم على السواد الأعظم من النساء ونسبة عالية من الأمية، وغياب تأهيل حقيقي للمرأة، فذلك يفرض عليها أن تكون أمّا قوية متمكنة وقادرة، تُدير الأسرة وتهتم بكل التفاصيل، فهناك نسبة كبيرة لم تُعزِّز ثقتهم بأنفسهم، وعدم وجود الثقة الكافية تمنع من التصرف السليم، فيتأثر الأبناء بشكل كبير لغياب الوعي بشكل عام وعدم قيام أفراد الأسرة من أخوال وأعمام بمساندة المرأة في رعاية أسرتها.
نصائح وإرشادات
وأخيرا تسرد الأستاذ المساعد في كلية الإعلام عدة نصائح لتستطيع زوجة المغترب تجاوز وضعها وكل الضغوط المفروضة عليها، فتقول: “لتتجاوز المرأة كل هذه الضغوط المجتمعية والأسرية، عليها أن تراعي عدة جوانب، جانب متعلق بها هي، جانب متعلق بعلاقتها بزوجها، وجانب متعلق بأطفالها، وأخيرا الجانب الأسري والمجتمعي، نأتي للجانب المتعلق بها وشخصيتها وكيانها، ولا أقول هذا لزوجة المغترب وحدها، بل أقوله لكل امرأة زوجها معها أو مغترب، حي أو ميت، للمرأة المرتبطة أو غير المرتبطة، أوصيها أن لا تهمل نفسها ولا تنسى نفسها في خضم الحياة والالتزامات والمسؤوليات، فيجب أن تكون كيانا يتجدد ويتطور بمرور الوقت؛ لأن العالم يتطور، ولا بد أن تواكبه، وأن تحرص أن تضيف لنفسها، تؤهل نفسها، لا تهمل صحتها النفسية والجسدية، أما بالنسبة للجانب المتعلق بالأبناء، فيجب أن تخرج من إطار مفهوم أن الأم هي مصدر الحنان والعاطفة والأمان فقط، فالأم أكثر من هذا، فهي الآن تقوم بدور الأب والأم، ويجب عليها الموازنة في الأدوار. ننتقل للجانب المتعلق بزوجها، والنقطة هذه هي مسؤولية الطرفين، فيجب على الطرفين أن يحرصا على أن لا يشكل هذا البعد فجوة، ولا يوصلهم إلى مرحلة أن الحضور والغياب سواء، فهناك وسائل تواصل كثيرة تدعم التواصل مع الغائب باستمرار، ليكون هناك إطلاع دائم ومشاركة في كل شؤون حياتهم، وتشير علوان إلى أن المغترب لا يعيش في الجنة، بل يعيش جحيم من نوع آخر، أيضاً المرأة غير مرتاحة، فوضعها فيه كثير من الأسى والوحدة، هو مغترب في الخارج، وهي مغتربة في الداخل، وعلى كليهما الوعي بهذا، ليرمموا علاقتهم بشكل دائم وليكونوا على تواصل دائم بقدر الإمكان، ويجب أن لا تطول فترات الغربة والزيارات. أما من جانب الأسرة والمجتمع، فمطلوب منهم الدعم والمساندة، وأن يكونوا سندا حقيقيا يساعدها على القيام بواجباتها، فهو وضع فُرض عليها، والغربة قدر اليمنيين منذ قرون طويلة ومصير كثير منهم.
“تم إنتاج هذه المادة ضمن مشروع غرفة أخبار الجندر اليمنية الذي تنفذه مؤسسة ميديا ساك للإعلام والتنمية”.