غناء تحت السقف القبلي: كيف يخرج غناء اليمنيات للنور؟

شارك المقال

دولة الحصباني – نسوان فويس

 

لم يكن لدي مجال للتنصل هذه المرة من حضور حفل زفاف إحدى القريبات. حفلات الزفاف النسائية في اليمن، وعلى عكس الصورة المتداولة ، تمر بسلسلة طويلة جدا من التحضيرات والإجراءات التي يضاف لها كل مرة أفكار مبتكرة ؛ تتجهز الفتيات – بالتوازي مع العروسة – منذ أسابيع سابقة لهذا اليوم ، يدفعهن الحماس، والرغبة في ترك بصمة ما ،عبر إظهار جمالهن وذوقهن في اختيار وتنسيق (الفساتين، الشعر، المكياج، الرقصات، وحتى المفاجآت التي تتخلل الحفل)، هذا بمعزل عن استعدادات أهل العرس أنفسهم ، تبدو الرحلة شاقة ، ومكلفة، لكنها صارت معتادة ، ومجال عام تفرد فيه العوائل مكانتها الاجتماعية، وتفرض فيه الفتيات لمساتهن وإبداعاتهن في فهم الموضة ومتابعة مستجدات التجميل وال makeup .

 

المغنيات الشعبيات عودة للواجهة

 

حجزت الفتيات صالون تجميل، فيما كنت أقلب دعوة الزفاف التي كتب عليها:” ستحيي العرس الفنانة جيهان العروسي”، في ذات اللحظة اقتربت مني فتاة للتأكيد:” لا تقلقي، صوتها جميل، وتغني ألوان مختلفة “. في العادة أعود من حفلات الزفاف مثقلة (بدوخة ودوشة)؛ دوخة: دخان شيش المدخنات، ودوشة: مكبرات الصوت الضخمة، التي تهتز عبرها أصوات نسائية متواضعة، تلوك كلاما بلا أحساس، وأغاني DJ (مجمعة) مهمتها الوحيدة إضرام الصداع. ابتسمت للفتاة، وقالت، ستعجبني طالما تعجبكن، كمحاولة للبقاء في دائرة شغف البنات المتحمسات للمناسبة.

 

أنه يوم الحفل، دلفت للقاعة الضخمة برفقة عدد من فتيات العائلة، بدأ الحفل منذ قرابة ساعة بينما كنا ما نزال عالقات في صالون التجميل، على ممر العروس ، فتيات إحداهن تدق على (الطّاسةوأخريات يؤدين رقصة البرع (الرجالية) ببدلات وشعر مجعد ، شبيه بشعر ملاطف الحميدي ، قيل أنهن يتبعن الفرقة الموسيقية ومهمتهن إضفاء جو للحفل، يا له من عرض، يبدو ملفتا، وتتفاعل معه الفتيات بقوة. في جانب بعيد من القاعة تجلس المغنية وبقية الفرقة، كانت فقط تشاركهن التفاعل، عبر إصدار أصوات محفزة، حتى انتهاء الرقصة. فيما كنت أحاول إيجاد مكان قريب من المغنية. أقبلت نفس الفتاة التي أكدت لي أن المغنية ستعجبني، قائلة: ” سيروق لك صوتها” مناديه عليها:” اطربينا بأغاني الفنانين الكبار أرجوك.!”. لطف السيدة المغنية وابتسامتها الملازمة شدتني للتركيز والاستماع، ” ليلك الليل ياليل“، “عليك سموني” وقائمة طويلة من الأغاني بألوان يمنية مختلفة تلتها تباعا. تسألني الفتاة: هااه، كيف وجدتيها؟، الحقيقة كانت تدور برأسي في تلك اللحظات أسئلة أخرى، لماذا تنكفئ بعض المغنيات اليمنيات اللواتي يملكن بوادر موهبة، ودرجة جيدة من الذوق الموسيقي وحسن الاختيار على أنفسهن، ليمارسن الغناء كمهنة، بعيدا عن ساحة المنافسة، ومجاراة تطور الذوق العام؟ وما الذي قد يعيد فتيات في مقتبل العمر للاستمتاع والتفاعل مجددا مع أغاني تراثية بعد شبه قطيعة حلت محلها أغاني من بلدان بعيدة؟ َ

 

وسيلة تعبير ورفض وتضامن

“تعكس التعبيرات الثقافية للمرأة، بما في ذلك الموسيقى، قدرتها على الصمود ورواياتها الجماعية ” تقول صبا محمود في كتابها (سياسات التقوى)، هذا العمق العاطفي لا يعزز التعبير الفردي فحسب، بل يعزز أيضًا التضامن الاجتماعي بين النساء، مما يسمح بخلق مساحة جيدة لإيصال أصواتهن، وكشف هوياتهن الصغيرة، وتجاربهن المختلفة ضمن مشهد ثقافي عام معقد.

تتعدد أشكال الأغاني التي تعكس الهوية الثقافية والتجارب العاطفية للنساء، مثل؛ الملالا: وهو عبارة عن شكل لحني أكثر، يحتفل عادة بالقيم المجتمعية والتجارب المشتركة، وغالبًا ما يتم أداؤه خلال المناسبات الاحتفالية، الاجتماعية، مما يسمح للمشاركين بالاتصال من خلال متعة الموسيقى والهوية المشتركة”. “مشاعر محجبة: الشرف والشعر في مجتمع بدوي” د. ليلى أبو لغدة، وهناك المهاجل: التي تتميز بإيقاعاتها المعقدة وكلماتها الشعرية، التي تركز غالبا على موضوعات الحب والشوق والتعلق الاجتماعي.

 

أسباب كثيرة تقف خلف تذبذب الحضور النسوي للمغنيات اليمنيات، وعدم الاستمرار العام، لكن الأكيد أن عامل الضغط والمسئوليات الاجتماعية كان لها دور حاسم في كبح جماح مشوارهن الفني، وتطلعات نجاحهن واستمرارهن، إلى جانب غياب مؤسسات ومنصات الدعم والمساندة. أثناء تواصلي مع إحدى الفنانات الشعبيات الناشطات في حفلات الأعراس والمناسبات الاجتماعية اليمنية، أبدت حماس لإجراء حوار، لكنها عادت لتعتذر من التعامل مع الإعلام بسبب رفض زوجها.

تاريخ عريق.. حضور متأرجح

تمتد سلسلة الفنانات والمغنيات اللواتي نفذن للمشهد العام بلا انقطاع، وإن كانت تتفاوت قصص حضورهن الفني، مدته، وعمقه، وحروبهن المتواصلة لمواجهة الثقافة المجتمعية التي تقف حائط صد أمام محاولاتهن الخروج للنور، وتحقيق جماهيرية أوسع، فمنذ أواخر الثلاثينيات وبدايات الأربعينيات انتشرت شركات التسجيلات في عدن. ظهرت فطوم ناصر كمغنية، حيث انتقلت من الحديدة لعدن خلال فترة الإمامة، واشتهرت بعد أدائها أغنية تهامي تم إصدارها على أسطوانة لاحقًا، فيما كانت نبيهة عظيم أول صوت نسائي يسجل لإذاعة عدن في آواخر الستينيات وبدايات السبعينيات، كما ظهرت خلال هذه الفترة رجاء باسودان وصباح منصر، وفتحية الصغيرة التي شاركت في عديد فعاليات خارج اليمن. في 1980 ظهرت الفنانة أمل كعدل التي أظهرت موهبة كبيرة وغنت مع كبار الفنانين، وفي 1982 صعدت كفى عراقي جميع هؤلاء الفنانات ظهرن لفترة ثم توارين أو اختفين عن الساحة لأسباب متعددة، باستثناء كعدل، أسباب كثيرة تقف خلف تذبذب الحضور، وعدم الاستمرار العام، لكن الأكيد أن عامل الضغط والمسئوليات الاجتماعية كان لها دور حاسم في كبح جماح مشوارهن الفني، وتطلعات نجاحهن واستمرارهن، إلى جانب غياب مؤسسات ومنصات الدعم والمساندة.

أثناء تواصلي مع إحدى الفنانات الشعبيات الناشطات في حفلات الأعراس والمناسبات الاجتماعية اليمنية، أبدت حماس لإجراء حوار، لكنها عادت لتعتذر من التعامل مع الإعلام بسبب رفض زوجها. حد تأكيدها !، هذه الحالة تعكس ظاهرة عامة لفنانات ومغنيات حاليا يمتلكن حضور شعبي، لكنه محاط بأسوار من الاشتراطات الاجتماعية، تبقيه ضمن دوائر صغيرة بعيدة عن الإعلام وقريبة من الوظيفة الرئيسية التي مررها المجتمع عليهن في سبيل إرضاء الحاجة الاجتماعية لحضور المغنيات على طاولة مناسباتهم، ندى عبدالله ، قائدة فرقة الندى الموسيقية تقول لمنصة “نسوان فويس” : ” تحديات كثيرة نواجهها، باعتبارنا نساء أولًا، وفنانات ثانيًا، ابتدأ بفكرة تنميطنا ضمن إطار اجتماعي معين، ومن ثم فرض القيود الاجتماعية التي تتحكم بظهورنا، واختياراتنا، وليس انتهاءً بالتحديات العملية. صحيح أننا نعمل، لكن عملنا في الغالب مرتبط بالموسمية، ومتصل بأوضاع الناس عموما، باستثناء قلة قليلة ممن يحرصون على إحياء مناسباتهم المختلفة بشكل متواصل”.

موقف قبلي يشتد ضراوة

في منتصف السبعينيات بعدن، حظيت النساء بفرص أفضل للغناء، وقد احتلت بعض النساء اليمنيات مكانهن في المجتمع كمغنيات محترفات وحظين بقبول الناس، لكن الظروف السياسية والاقتصادية ساوت إلى حد ما بين التحديات التي تواجها المرأة اليمنية شمالا وجنوبا.

على الرغم  من محاولات قتل وتسميم تقية الطويلية -إحدى رائدات الغناء الشعبي شمالا- والتي بدأت الغناء لـ”نساء الإمام”، قبل قيام الثورة في 1962، حيث كانت تغني في نطاق محصور، بحيث يتم سد النوافذ، حتى لا يسمع “عسكر الإمام”، كون الغناء في تلك المرحلة كان يُعد جريمة، لم يمهد مشروع صمودها هذا، الطريق أمام أجيال لاحقة اختطت ذات الخط، لفرض الفن النسائي كحالة عامة يتنفس الهواء الطلق، يؤثر ويتأثر بمحيطه وبوقع الموسيقى والفن العالمي. إذ تلقت مغنية الراب اليمنية أماني يحيى، مكالمات هاتفية مجهولة المصدر وتهديدات، بسبب ظهورها للغناء بدون حجاب أو عباءة أثناء فعاليات كانت ترعاها السفارة الفرنسية والأمريكية بصنعاء قبل العام 2018 ، قيل لها بإن عليها  التوقف عما تفعله، لأنه حرام، وإن عليها أن تخجل.! ، أماني التي تعلمت الراب في غرفتها أيام دراسة الثانوية  وقبل هجرة عائلتها للملكة العربية السعودية، تقول أنها اصطدمت بحواجز المنفى، والحرب، والموقف الاجتماعي، فيما كانت تحاول أن تعبر عن قضايا الداخل اليمني وتحديدا قضايا النساء والأطفال عبر موسيقى ولغة عالمية.

الخط الزمني الطويل نسبيا بين الطويلية ويحيى، يظهر بجلاء ليس فقط تصلبا اجتماعيا، بل تراجع وتعصب كبير، بالمقارنة مع الماضي القريب الذي واكب انفتاحا شعبيا على الثورات والتفاعل مع العالم الخارجي.

 

في شبابنا لم يكن لدينا وسيلة للتعبير، إلا الغناء بأعلى الصوت في البوادي والجبال، كنا نقول ما لا نستطيع قوله أمام الأقارب والأهل، كنا نحتج على تزوجينا صغيرات (يا أمه ويابه وما أسخاكم تبيعونا…) ، كنا نطلب الحماية من أباءنا وإخواننا من خلال كم هائل من الأغاني، التي نرددها حتى في الزفات واللحظات المفصلية، كنا نفضفض عن حنينا لأزواجنا الغائبين، ونعترف بإعجابنا، وحبنا، نسرد همومنا ومشاكلنا، وتضحياتنا، كنا نغني، كأننا نسجل تاريخا سريا من المشاعر، اليوميات، والحياة المليئة بالهزائم والقليل من الانتصارات

 

أغاني مشفرة تحمل حياة

تقول الخالة أم أصيل (69 عاما)  لمنصة “نسوان فويس” :” في شبابنا لم يكن لدينا وسيلة للتعبير ،إلا الغناء بأعلى الصوت في البوادي والجبال، كنا نقول ما لا نستطيع قوله أمام الأقارب والأهل، كنا نحتج على تزوجينا صغيرات (يا أمه ويابه وما أسخاكم تبيعونا…)، كنا نطلب الحماية من أباءنا وإخواننا من خلال كم هائل من الأغاني، التي نرددها حتى في الزفات واللحظات المفصلية، كنا نفضفض عن حنينا لأزواجنا الغائبين ، ونعترف بإعجابنا، وحبنا ، نسرد همومنا ومشاكلنا، وتضحياتنا، كنا نغني، كأننا نسجل تاريخا سريا من المشاعر، اليوميات، والحياة المليئة بالهزائم والقليل من الانتصارات” .

تضمنت أغاني الشوق مثلا، ثلاثة أنواع مختلفة من الأغاني التي غنتها النساء: المعينة (أغاني الوادي) غالبا ما تتضمن أربعة أبيات، تغني بإيقاع طويل، في الوادي أو أثناء الحصاد، والغنوية (الأغاني القصيرة) عادةً ما تكون مقطعين فقط، تُغنى بأسلوب متكرر ولحن حزين، تغني أثناء طحن النساء في المطاحن الحجرية أو أثناء تأديتها للمهام المنزلية، والقصيدة (الشعر الرسمي) وهو الشكل الذي وصل إلينا، تتكون من عدة أبيات، وغالبًا ما تُؤلف على جلسات متعددة. ثم تُلحن القصيدة وتُغنى للآخرين.

هكذا تداولت النساء تراث لا مادي متنقل عبر الزمن، لم يكن الغرض من هذا التداول حفظ تاريخ الأغاني والأهازيج الشعبية، بقدر ما كانت وسيلة اليمنيات الواقعات تحت مقصلة القبيلة، للرفض والتعبير والشرح.

” غناء النساء العربيات عموما واليمنيات على وجه التحديد، له خصوصية اجتماعية وتاريخية، وموضوعات الأغاني عادة ما تلجأ للكناية والتورية، واستخدام الرموز المشفرة، علاوة على سمة الخطاب المتأدب الذي يحاول ألا يصطدم بالمجتمع، لكنه يحاول في الوقت ذاته التعبير عمّا تريده النساء ” تقول أستاذة علم الاجتماع، بجامعة صنعاء، عفاف الحيمي.

تحاول الفنانات والمغنيات العودة للساحة النسوية التي يفترض أنها ساحهتن بالأساس، عقب عقود من سيطرة أغاني DJ، والأصوات الرجالية حتى على صالات وقاعات أعراس النساء، وعلى ما يبدو استعن بكل ما من شأنه الحفاظ على مصدر رزقهن عبر تكوين فرق مكتملة البعض من أفرادها يدق على الطاسة (طبل البرع) والبعض الآخر يؤدي رقصات رجالية بأزياء تقترب كثيرا من أزياء الرجال. استحداثات دفعت حتى صغار الفتيات للتفاعل معها، ومجاراتها ” أشعر أني في مجتمع متكامل، غير مفصول، نؤدي ذات الرقصات ونستمع لذات البرع ذائع الصيت، الذي كان حكرا على ساحات الرجال” تقول عبير، شابة في العشرينيات. لكنها محاولات ضمن بوتقة ضيقة تحكم زمام قيادتها القبيلة والعرف، والتشدد الديني، عدا أنها مدفوعة بواقع خشن أقحم (البرع، رقصة الحرب الشهيرة)، والزوامل (ضرب من الأناشيد الحربية والاجتماعية الرجالية في اليمن) لمعاقل النواعم ووعيهن ووجدانهن.

 

الصورة مولدة بالذكاء الاصطناعي

مقالات اخرى