تمييز داخل الجدران: حين تُفرِّق الأسرة بين الذكر والأنثى

شارك المقال

كتب: عبد العالم الشرجي

“يا ليتني شاب”… عبارة تتردد على ألسنة كثير من الفتيات اللواتي يشعرن بأن كونهن إناثاً جعل حقوقهن في المجتمع محدودة وفرصهن أقل. فبينما تُفتح أمام الذكور أبواب التعليم والعمل واتخاذ القرار، تقابل أحلام العديد من الفتيات بالرفض أو التأجيل بحجة العادات والتقاليد.

هذا الشعور بالتمييز لا يقتصر على الكلمات، بل ينعكس في تفاصيل الحياة اليومية، من مقاعد الدراسة إلى سوق العمل، حيث تُقاس الفرص بالنوع لا بالكفاءة، لتبقى عبارة “يا ريتني شاب” صدى لواقع ما زال يبحث عن العدالة والمساواة.

“عبير” (اسم مستعار)، فتاة عشرينية عانت مما واجهته في أسرتها من تمييز بالتعامل ما بينها وبين إخوتها الذكور، فتقول: “كنت دائمًا أتمنى لو أنني شاب! ليس تقليلًا من عظمة الأنوثة، بل رغبة في نيل الحرية التي حُرمت منها فقط لأنني أنثى”. بينما اعتبرت “هدى” (اسم مستعار، 25 عامًا) أن هذه العنصرية بين الذكر والأنثى في التعامل بالعائلة نفسها، حرمتها من التعليم.

فتقول: “تخرجت من الثانوية بمجموع ممتاز يؤهلني لدخول كلية الطب وكان حلمي منذ طفولتي، بينما حصل أخي على مجموع بالكاد يؤهله للالتحاق بأي كلية، لكن والدي رفض تسجيلي في الكلية، ثم سجّل أخي في كلية الهندسة بجامعة خاصة، مبررًا ذلك بأنه ولد وسيعيل عائلته، أما أنا فمكاني البيت بانتظار الزواج”.

تضيف هدى بأسى: “شعرت أن حلمي ينهار أمامي فقط لأنني فتاة، بكيت كثيرًا لكن لم يسمع أحد صوتي”.

أما “صفاء” (اسم مستعار، 35 عامًا) فتروي قصتها بألم قائلة: “تزوجت في السادسة عشرة دون إرادتي ضمن صفقة تبادل زواج بين عائلتين، إذ أُجبرت لأن أخي أراد الزواج من ابنة جارنا.”

تقول إنها واجهت تمييزًا قاسيًا بعد إنجابها أربع بنات، إذ كان زوجها وعائلته ينتظرون الذكر في كل مرة، حتى طلقها بعد مولودتها الرابعة.

تضيف صفاء: “أعمل اليوم في الخياطة وأُعيل بناتي، وأحرص على تربيتهن على الثقة بأنهن لا يقللن عن الذكور، وأن لهن الحق في التعليم والعمل والاختيار مثلهم.”

هل تغير الواقع؟

من جانبه، عبّر عارف سيف (35 عامًا) عن استغرابه من استمرار شعور بعض الفتيات بالتمييز، مشيرًا إلى أن المرأة اليوم أصبحت أكثر حضورًا في مواقع صنع القرار بالمؤسسات الحكومية وفي سوق العمل، خصوصًا داخل المنظمات المحلية والدولية.

وأوضح أن السنوات الأخيرة شهدت تزايد فرص التوظيف للإناث مقارنة بالذكور، مطالبًا بإنصاف الشباب الذكور أيضًا في فرص التوظيف التي تميل — بحسب رأيه — إلى الإناث، وذلك لتحقيق توازن وعدالة حقيقية بين الجنسين.

وفي السياق نفسه، تحدث سالم الحاكم، وهو أب لعدة أبناء، قائلًا إنه يؤمن بأن الاستثمار في تعليم البنات لا يقل أهمية عن تعليم الأبناء، بل قد يكون أحيانًا أكثر أولوية.

وأضاف: “لدي عدد من الأولاد، لكنني حرصت على الاهتمام بابنتي أكثر من إخوتها، فشجعتها على مواصلة تعليمها الجامعي، وسجلتها في كلية الطب. كما وفرت لها كل ما تحتاجه من أدوات تساعدها على التفوق، منها جهاز لابتوب وهاتف آيفون عند التحاقها بالجامعة.

وأشار الحاكم إلى أن مظاهر التفضيل القديمة للذكور بدأت تتلاشى تدريجيًا بفضل ارتفاع الوعي الأسري والتعليمي، مؤكدًا أن كثيرًا من الآباء اليوم أصبحوا يدركون أهمية دعم بناتهم وتمكينهن من التعليم والنجاح مثل أبنائهم الذكور.

يرى د. داؤود صالح الحميدي، أستاذ علم النفس الاجتماعي بجامعة عدن، أن التفرقة بين الذكور والإناث في التنشئة الأسرية ما زالت تمثل إحدى القضايا الاجتماعية المؤثرة على استقرار الأسرة وتوازن المجتمع. فالكثير من الأسر، كما يقول، ما تزال تتبنى موروثات تقليدية تمنح الذكور الأفضلية وتقيّد الإناث بدور ثانوي، الأمر الذي ينعكس سلبًا على ثقة الفتاة بنفسها ويحد من طموحها.

ويؤكد الحميدي أن هذا التمييز يُخلِّف آثارًا نفسية واجتماعية عميقة، أبرزها الإحباط وتدني تقدير الذات، إضافة إلى ضعف العلاقات الأسرية وتكرار أنماط الظلم عبر الأجيال.

ويرى أن المرحلة الراهنة تتطلب مراجعة مفهوم العدالة في التنشئة، بحيث تقوم على المساواة في الفرص والاحترام المتبادل، مؤكدًا أهمية دور الأسرة والمدرسة والإعلام في تعزيز ثقافة العدالة وتكافؤ الفرص بين الجنسين.

في حين تعتبر أخصائية الاستشارات الأسرية والنفسية رئيسة مؤسسة المرأة الآمنة للتنمية ابتهال الأغبري أن التفرقة الأسرية بين الذكور والإناث هي المعاملة غير العادلة داخل الأسرة على أساس الجنس، كمنح الذكر امتيازات في التعليم أو الحرية أو الرأي مقابل تقييد الأنثى وحرمانها من حقوقها.

وأشارت الأغبري إلى أن أسباب التفرقة تعود إلى عوامل ثقافية واجتماعية كالموروثات التي تفضل الذكر بوصفه “امتداد العائلة”، والنظرة الدونية للأنثى، إضافة إلى عوامل اقتصادية تتعلق بالميراث والقدرة الإنتاجية، وأخرى نفسية نتيجة غياب الوعي التربوي أو تعويض النقص العاطفي لدى الوالدين، فضلاً عن تفسيرات دينية مغلوطة تُستخدم لتبرير التمييز رغم أن الإسلام أقر المساواة في الكرامة والحقوق.

وتختتم الأغبري بالتأكيد على ضرورة تعزيز الوعي الأسري والتربوي، وتصحيح المفاهيم الدينية والاجتماعية الخاطئة، لضمان بناء جيل متوازن قائم على المساواة والاحترام المتبادل بين الجنسين.

من منظور الشريعة الإسلامية

أوضح الدكتور محمد الفقيه، المتخصص في الشريعة الإسلامية وخطيب جامع، أن الإسلام هو أول من أرسى مبدأ العدل والمساواة بين الأبناء ذكورًا وإناثًا، مستدلًا بقول الله تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير)، وبقوله سبحانه: (يا أيها الذين أمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارًا).

وأشار الفقيه إلى أن الشريعة لم تكتفِ بالأمر بالعدل، بل حثت على الإحسان إلى البنات ورعايتهن، كما قال النبي (ص): “من كان له بنتان فأحسن تربيتهما كن له حجابًا من النار”.

وأكد الفقيه أن حرمان الفتيات من التعليم أو فرص التنمية بدعوى العادات لا يستند إلى أي أساس شرعي، بل إن واجب الأب أن يسعى لما فيه خير بناته في دينهن ودنياهن، وأن يحميهن من مواطن الفتنة دون أن يمنع عنهن حقوقهن المشروعة.

وختم الدكتور الفقيه بالقول إن كل ما جاءت به الشريعة من توجيهات إنما هو حفاظ على كرامة الفتاة المسلمة وصيانة لحقوقها وعدالة في معاملتها.

ولمعالجة ظاهرة التفرقة بين الذكور والإناث، يؤكد المختصون ضرورة ترسيخ مبادئ العدل والمساواة داخل الأسرة، باعتبارها النواة الأولى لبناء الوعي المجتمعي السليم.

كما يشددون على أهمية دور المؤسسات التعليمية والإعلامية في نشر ثقافة الإنصاف وتكافؤ الفرص، إلى جانب تفعيل القوانين والسياسات التي تضمن المساواة في التعليم والعمل. إن تحقيق العدالة بين الجنسين ليس شعارًا، بل ممارسة يومية تبدأ من الأسرة وتمتد إلى مؤسسات المجتمع كافة، وصولًا إلى بيئة تسودها الكفاءة والاحترام المتبادل.

 

مقالات اخرى