حين يتحول الألم إلى أمل: نساء الضالع يواجهن الخرافات والوصمة الاجتماعية بالعلاج النفسي

شارك المقال

خديجة الجسري – نسوان فويس

كانت “رُبى” (اسم مستعار)، شابة من مدينة الضالع، تجلس لأشهر طويلة في زاوية غرفتها المظلمة، ترفض الحديث أو الخروج، وتبكي دون سبب. بعد أن فقدت والدها في إحدى المواجهات المسلحة، انهارت نفسياً وبدأت تعاني من نوبات اكتئاب حادة وهلاوس جعلت أسرتها تعتقد أن “جنياً” يسكن جسدها. اصطحبها أهلها من شيخ لآخر، جميعهم ضاعفوا أضطرابها وخوفها نتيجة للضرب والصراخ في أذنها، وكثير من التصرفات التي يتبعها المشعوذين ودعاة الطب الشعبي.

لكنّ لحظة التغيير جاءت عندما قررت والدتها – عقب نصيحة إحدى الجارات – أخذها إلى طبيب نفسي في عدن. هناك، سمعت الأسرة لأول مرة أن ما تعانيه رُبى ليس “مسّاً”، بل اكتئاب شديد نتيجة الصدمة والفقد. بعد أشهر من العلاج والأدوية والجلسات، بدأت رُبى تعود إلى الحياة شيئاً فشيئاً، لتصبح اليوم إحدى المتعافيات اللواتي يروين قصصهن للنساء في الضالع، مؤكدات أن المرض النفسي ليس عيباً، بل تجربة يمكن تجاوزها بالإرادة والعلاج.

قصة رُبى ليست إلا نموذج لواقعٍ تعيشه كثير نساء في الضالع، حيث خلفت الحرب والصراعات المستمرة ندوباً عميقة في النفوس، على رأسها الصحة النفسية للنساء، وسط غياب الدعم المتخصص وهيمنة الموروثات الشعبية والخرافات على أساليب التعامل و العلاج.

 

انتشرت الاضطرابات النفسية بشكل واسع بين النساء في المحافظة، متخذة أشكال مختلفة مثل الاكتئاب، واضطراب ثنائي القطب، والقلق، واضطرابات المزاج والوسواس القهري، إضافةً إلى ما يُعرف بـ الاضطرابات النفسية الجسدية، حيث يكون السبب نفسيّاً غير ظاهر، بينما تظهر الأعراض على شكل أمراض جسدية مثل القولون العصبي، واضطرابات المعدة، وارتفاع الضغط، والصداع النفسي وغيرها

الواقع النفسي للنساء

انعكس الصراع المسلح في الضالع على جوانب عدة، بدءا بالنزوح ، وفقدان مصادر الدخل، على الصحة النفسية للسكان، لا سيما النساء اللواتي يواجهن ضغوطاً مضاعفة أسريا واجتماعيا. ما أدى إلى تزايد حالات الاكتئاب والقلق والاضطرابات النفسية بين النساء، بالتزامن مع غياب خدمات الدعم النفسي المتخصص. ويزيد الأمر تعقيداً اعتماد كثير من الأسر على الموروث الثقافي والخرافات في التعامل مع المرض النفسي، والمتضرر الأكبر هو المريض ، الذي يصبح عرضة للتهميش أو اللجوء إلى طرق علاج غير علمية تزيد من معاناته.

في هذا السياق يقول : حافظ الحشيشي ، طبيب نفسي، لمنصة “نسوان فويس” إن محافظة الضالع لا تختلف عن بقية المحافظات اليمنية التي تأثرت بالحرب والصراعات المسلحة، خصوصاً كونها منطقة تماس، مضيفا : ” التأثيرات النفسية في الضالع أكثر حدة، ولا سيما على المرأة التي كانت – وما تزال – الأكثر تضررا  ، بسبب ما تعرضت له من قتل وتشريد ونزوح “.

وتابع الحشيشي حديثه :” انتشرت الاضطرابات النفسية بشكل واسع بين النساء في المحافظة، متخذة أشكال مختلفة مثل الاكتئاب، واضطراب ثنائي القطب، والقلق، واضطرابات المزاج والوسواس القهري، إضافةً إلى ما يُعرف بـ الاضطرابات النفسية الجسدية، حيث يكون السبب نفسيّاً غير ظاهر، بينما تظهر الأعراض على شكل أمراض جسدية مثل القولون العصبي، واضطرابات المعدة، وارتفاع الضغط، والصداع النفسي وغيرها “.

ونوه الحشيشي إلى أن التعامل مع المرض النفسي ما تزال تشوبه كثير معتقدات خاطئة تعزو إلى العين ، السحر، المسّ ، أو الحسد، وتلجأ بعض الأسر إلى المشايخ أو الرقاة بدلاً من الأطباء. إلا أنه أن الوعي المجتمعي بدأ يتزايد تدريجياً، وأصبحت النساء أكثر جرأة في طلب العلاج النفسي والسفر إلى المدن الأخرى للقاء الأطباء المختصين.

مشيراً بالدور المهم للنساء المتعافيات اللواتي تلقين العلاج وعُدن للاندماج في المجتمع، في نشر ثقافة اللجوء للطب النفسي، وكسر وصمة الانتقاص والتنميط المجتمعي.

 متعافيات اجتزن واقعهن

قصة رائدة أحمد ونور – متعافيتان من اضطرابات نفسية – تبرز كيف يمكن للإصرار والدعم النفسي أن يحولا مأساة وألم سنوات إلى بداية حياة جديدة، مؤكدتين أن العلاج النفسي ليس خياراً بل ضرورة للشفاء.

و رائدة أحمد، سيدة من إحدى مناطق الضالع القريبة من المدينة، عاشت مأساة قاسية بعد فقدان طفلها الذي أنجبته بعد عشر سنوات انتظار، و مات في عامه الثالث.

هذا الفقد أدخلها في حالة اكتئاب و ذهان، حتى أنها كانت ترى ابنها المتوفى أمام عينيها. عائلتها وزوجها اعتقدوا أن ما تمر به سببه “مسّ من الجن”، فأخذوها من قارئ قرآن إلى آخر، وكلهم أكدوا أنها “ممسوسة”، بل وصل الأمر إلى القول إن الجنية هي من أخذت ابنها، مطالبين الأب بذبح القرابين .

تقول رائدة لمنصة “نسوان فويس” : “مللت الذهاب إلى القرّاء ومللت كلامهم الذي ينافي ما أعيشه، فطلبت من زوجي أن يأخذني إلى طبيب نفسي في إب كنت قد سمعت عنه سابقاً، هناك استمع إلي الطبيب، وبعد تشخيص حالتي أكد أني أعاني من اكتئاب حاد تطور إلى ذهان نتيجة الصدمة”.

وتتستطرد رائدة حديثها قائلة : ” وصف لي الطبيب على إثر هذا التشخيص جلسات علاجية وأدوية تساعدني على النوم وتخفف الكوابيس والفزع، وبعد عشرة أيام بدأت حالتي تتحسن، وخلال أشهر عدت تدريجياً إلى طبيعتي، مستعيدة حياتي، ليعوضني الله بتوأم هم ماجد وماجدة ” .

وتختم رائدة الحديث عن تجربتها هذه بالقول : “أنصح كل امرأة تشعر بتغيرات في نفسيتها أن تذهب مباشرة إلى الطبيب النفسي، فهو الملاذ الآمن والفيصل الحقيقي، أما القُرّاء الذين لا يفحصون ولا يعرفون الغيب فلن يزيدوك إلا وهماً ومعاناة قد تصل بك لحد الجنون .”

في هذا الصدد يروي والد نور، وهم من إحدى قرى مديرية قعطبة بالضالع، قصة ابنته لمنصة “نسوان فويس” قائلا : “عدت من الغربة بعد عامين من معاناة ابنتي، حيث كانت والدتها تقول إنها مسحورة، فاصطحبوها إلى مشائخ وقرّاء في الضالع ولحج وحتى صنعاء دون أي فائدة ، عندها قررت أخذها إلى طبيب أمراض عقلية ونفسية، وبعد الفحوصات تبيّن أنها تعاني من خلل في توازن الدماغ.”

ويضيف: “كانت والدتها تصرّ على رفض العلاج النفسي خوفاً على سمعة ابنتي، لكني اخترت صحتها فوق كل اعتبار، وبعد فترة من العلاج، تماثلت نور للشفاء، لتفتح قصتها الباب أمام تحول مجتمعي؛ إذ بدأت عشرات النساء والفتيات اللواتي كنّ يترددن على مراكز المشائخ يتجهن نحو العيادات النفسية”.

ويختتم والد نور حديثه : “اليوم صار الناس يتحدثون عن الاكتئاب والقلق كأمراض واقعية أصابت النساء بسبب الحرب، يمكن التعامل معها وتشخيصها شأنها شأن أي مرض عضوي، ولم يعد الاعتراف بها عبء أو يشكل عيباً.”

 

يمارس المشايخ والمعالجين الشعبيين الذين أساليب عنيفة في ما يسمونه “العلاج بالقرآن” مثل استخدام أسلاك الكهرباء والخنق والضرب بالعصي، من شأن هذه الأساليب تسريع تدهور حالة المريض، وانتهاك إنسانيته، علاوة على ما تتركه من آثار جسدية ونفسية عميقة لا تبرأ بسهولة، إن لم تؤدي بحياة المريض لا قدر الله

ارتفاع الوعي المجتمعي

أسهمت تجارب التعافي في الضالع بتغيير نظرة المجتمع تجاه الصحة النفسية، فبدأ الحديث عنها يصبح أكثر انفتاحاً ووعيًا، خاصة بعد أن روت نساء قصصهن التي كشفت حقيقة المعاناة خلف الوصم والخرافات. وتغيرت ردود فعل المجتمع المحلي تدريجياً، من رفض أو إنكار إلى قبول المرض النفسي كحالة طبية تحتاج علاجاً. هذا التحول دفع فتيات ونساء أخريات للبحث عن الدعم الطبي والنفسي، ليصبح طلب المساعدة خطوة شجاعة نحو الشفاء وليس عيباً.

من جهته يقول الباحث الاجتماعي الدكتور، صلاح الحقب ل”نسوان فويس” : “تُعد الثقافة المجتمعية، بما فيها العادات والتقاليد، من أكثر الجوانب التي يصعب تغيّرها بسرعة، إذ يحتاج أي تحول في العادات أو النظرة المجتمعية إلى تفاعلات وتجارب متراكمة عبر الزمن، ومن أبرز هذه التحديات النظرة السلبية تجاه المريض النفسي، التي كانت –ولا تزال– حاضرة في الوعي الشعبي باعتبار المرض النفسي عيباً أو ضعفاً “.

ويتابع :” غير أن الملاحظ اليوم أن هذه النظرة بدأت تتراجع تدريجياً، وأصبحت أقل حدّة مما كانت عليه في السابق، بفضل الجهود التوعوية والإرشادات المقدمة عبر برامج الدعم النفسي والاجتماعي (برامج الحماية)، إضافةً إلى تجارب عديدة لأشخاص تماثلوا للشفاء وشاركوا قصصهم ” .

الطبيب والناشط الإعلامي الدكتور صلاح أحمد، يشدد -من جهته – على أهمية الجانب التوعوي. مؤكدا في حديث لمنصة “نسوان فويس” على أهمية كسر وصمة المرض النفسي التي ما زالت تشكّل حاجزاً يمنع كثيراً من النساء عن طلب المساعدة، مشيراً إلى أن المرض النفسي لا يختلف عن أي مرض عضوي آخر، وأن إدراك هذه الحقيقة يُعد خطوة أولى نحو التعافي.

وأوضح أحمد أن من الضروري تشجيع النساء على مراجعة الأطباء والمراكز المتخصصة عند ظهور أي أعراض نفسية، بدلاً من الخضوع للمعتقدات الخاطئة أو السكوت عن الألم.

وأشار إلى أن اللجوء إلى السحر والشعوذة والرقاة غير المختصين ما يزال يُمثل خطراً حقيقياً على الصحة النفسية والجسدية للنساء، إذ يؤدي غالباً إلى تأخر العلاج وتفاقم المعاناة.

وأضاف:” يمارس المشايخ والمعالجين الشعبيين الذين أساليب عنيفة في ما يسمونه “العلاج بالقرآن” مثل استخدام أسلاك الكهرباء والخنق والضرب بالعصي، من شأن هذه الأساليب تسريع تدهور حالة المريض، وانتهاك إنسانيته ، علاوة على ما تتركه من آثار جسدية ونفسية عميقة لا تبرأ بسهولة، إن لم تؤدي بحياة المريض لا قدر الله “.

وأضاف أن الوعي المجتمعي في الضالع بدأ يتحسن تدريجياً بفضل الجهود الإعلامية وبرامج الدعم النفسي والاجتماعي، مؤكداً أن الاستثمار في التوعية والتثقيف الصحي هو الطريق الأمثل لبناء مجتمع يتعامل مع المرض النفسي بعقلانية وإنسانية، ويمنح المرأة الحق في العلاج والحياة الكريمة دون خوف أو وصمة.

لقد أثبتت تجارب النساء المتعافيات، ودعم الأطباء والناشطين، أن التغيير ممكن حين يتحد العلم والإرادة والتوعية. ومع تصاعد الأصوات الداعية إلى فهم المرض النفسي كحالة طبية لا كوصمة، تقترب الضالع خطوة نحو مجتمعٍ أكثر وعياً ، غير أن التحدي الأكبر هو استمرار نشر الوعي وتوسيع خدمات الدعم النفسي لتصل إلى كل امرأة تعاني بصمت، حتى يصبح العلاج النفسي حقاً متاحاً لا رفاهية صعبة المنال.

مقالات اخرى