دولة الحصباني – نسوان فويس
لم يكن اغتيال إفتهان المشهري، المديرة التنفيذية لصندوق النظافة والتحسين، وعضو المجلس المحلي بمحافظة تعز، مجرد حادثة جنائية عابرة. فالرصاص الذي أودى بحياتها في وضح النهار وسط جولة سنان في قلب المدينة، سرعان ما تحوّل إلى صرخة مجتمعية كبرى، كشفت حجم الفراغ الأمني والسياسي في مدينة ترزح منذ سنوات تحت ثقل الانقسامات والنزاعات المسلحة.
قُتلت المشهري، المرأة التي تحمل في قلبها إرادة تكفي لانتشال مدينة من براثين واقع يعج بالفساد، وفي خطواتها عزما يثبت أن الفساد ليس قدراً ينبغي التسليم له، بل خصما يمكن الوقوف بوجهه ومقارعته، أثناء مرورها بسيارتها في شارع عام
الجريمة تفصيلًا وتضاربًا
قُتلت المشهري، المرأة التي تحمل في قلبها إرادة تكفي لانتشال مدينة من براثين واقع يعج بالفساد، وفي خطواتها عزما يثبت أن الفساد ليس قدراً ينبغي التسليم له، بل خصما يمكن الوقوف بوجهه ومقارعته، أثناء مرورها بسيارتها في شارع عام، برصاص مسلحين- قيل- أنهم على صلة ببعض المتنفذين-. التحقيقات الأولية أفضت إلى ملاحقات واسعة انتهت بضبط عشرات المشتبه بهم، فيما أعلنت الشرطة أن المتهم الرئيس- محمد صادق المخلافي- قُتل خلال مواجهة مسلحة مع قوة أمنية إثر مقاومته للحملة العسكرية.
هذا التطور لم يُنهِ احتجاج الشارع، وإن كان حد قليلا من غضبه، بل استمرت الاحتجاجات وظهرت عديد مطالب بقضايا أخرى، وبين هذا وذاك ظهرت أصوات تشكك في أن الإجهاز على المخلافي ما هو إلا وسيلة للتغطية على من يقف وراءه، خاصة بعد تداول فيديو – قيل إنه للجاني- تحدث فيه أنه كان مدفوعا، وتم تشجيعه من قبل أسماء كبيرة. المخلافي كان قد سبق له أن اقتحم الصندوق وهدد رئيسته بالقتل علنا ومع ذلك بقى حرا طليقا قيل إنه كان محميا بانتمائه القبلي وارتباطه بقادة عسكريين.
تعز حزن واحتجاج
على مدى ستة أيام، تحوّلت قصية إغتيال المشهري إلى حركة احتجاجية كبيرة وواسعة. إذ خرج الشارع التعزي في مسيرات نسائية، ووقفات حقوقية، واعتصامات جابت شوارع المدينة، مطالبة بالقصاص وإنهاء الانفلات الأمني، ومعهم انتفض وغضب كل اليمنيين.
اللافت هو الوجود النسوي الكبير، الذي تصدر هذه الفعاليات، في تعبير واضح عن الارتباط الرمزي للجريمة بحق واحدة من أبرز وأنظف القيادات النسائية في المدينة. خلال الفعاليات رفعت عديد شعارات مثل “تعز مدينة للحياة لا للقتل”، و “أمنٌ عادل يحمي النساء” ليرتفع سقف المطالب والشعارات من مجرد العدالة الجنائية إلى إصلاح أمني أوسع، وعدالة تقتص من كل من تورط في جريمة، ومن كل من رفعت ضدهم أحكام قضائية، واستطاعوا بطريقة أو بأخرى النفاد منها.
الحادثة وهشاشة الواقع
وفيما يبدو أن حادثة مقتل السيدة افتهان المشهري قد كشف عن حجم الانفلات الأمني في محافظة تعز، قد عرى أيضا تغلغل بعض المجاميع المسلحة وتداخلها مع مؤسسات الدولة -المعني الأول بفرض سيادة الدولة ونشر الأمن والأمان – بل على العكس تسبب هذا التغلغل بإضعاف قدرة الأجهزة الرسمية وشل حركتها، بل ووظفها كأداة يمر عبرها المارقون، والخارجون عن القانون.
رسالة ترهيب اجتماعي
لكن استهداف سيدة عَزْلاء فتح باب المخاوف على مصراعيه، ليس بوصفها الحادثة الأولى، ولا باعتبارها مجرد جريمة جنائية عابرة، بل استهداف لمشروع الدولة في تعز- عصا رهان المدنية اليمنية- ومحاولة لسحب الإنجازات المدنية التي تحققت، خاصة في مجال إشراك النساء في مناصب قيادية عامة، وعلى الرغم أن المنصب الذي تقلدته المشهري لم يكن بالمستوى الذي ربما يليق بإمكانياتها الإدارية والقيادية، لكنه كان كاف لقشع ضباب التربص الذي يحيط بكل المشاريع الوطنية، وخاصة تلك التي تقف على رأسها النساء.

دماء تمدنا بالحياة
أعلنت الأجهزة الأمنية عن ضبط أكثر من عن 31 متهماً، بينهم سبعة على ذمة التحقيق، مع الإشارة إلى شبكة منظمة تقف خلف الجريمة. لكن حتى الآن، لم تُعرض أسماء المتورطين أو تفاصيل الأدلة للرأي العام، في سياق متصل وجه المحافظ، نبيل شمسان، في 28 سبتمبر/أيلول بإخلاء المباني والمنشآت الحكومية الواقعة تحت سيطرة مسلحين وتبلغ بحسب توجيه الإخلاء قرابة 25 مبنى ومنشأة .
منظمات حقوقية طالبت بآلية تحقيق مستقلة، وأصوات داخل المجلس المحلي دعت إلى مساءلة القيادات الأمنية نفسها، باعتبار أن الجريمة جرت في قلب المدينة وتحت أعين أجهزة يفترض أنها معنية بالحماية، علاوة على الحيثيات التي سبقت مقتل المشهري، ابتداءً بتجاهل دعواتها وبلاغاتها للجهات الأمنية بخصوص التهديدات التي كانت تتلقاها.
تقول مجريات الأحداث أن حادثة استهداف المشهري لن تكون مجرد حادثة تضاف لسجل طويل من الحوادث التي ذهب ضحيتها خيرة أبناء اليمن، بل نقطة تحول جوهري في علاقة الشارع بالسلطة ولحظة اختبار جاد لقدرة السلطات على إثبات أن العدالة ممكنة، وأن دماء هؤلاء الشرفاء ممن حملوا في أعماقهم رسائل وطنية نبيلة ليست وقوداً لصراع القوى

من هنا مرت افتهان
في موكب جنائزي مهيب شيع اليمنيون اليوم، جثمان الشهيدة افتهان المشهري، التي تقول مجريات الأحداث أن حادثة استهدافها لن تكون مجرد حادثة تضاف لسجل طويل من الحوادث التي ذهب ضحيتها خيرة أبناء اليمن، بل نقطة تحول جوهري في علاقة الشارع بالسلطة ولحظة اختبار جادة لقدرة السلطات على إثبات أن العدالة ممكنة، وأن دماء هؤلاء ممن حملوا في أعماقهم رسائل وطنية نبيلة ليست وقوداً لصراع القوى.
وهذا سيتوقف على طبيعة ما ستكشفه – أو تخفيه – الأيام المقبلة، تبعا لنتائج التحقيق، وردة فعل الجماهير الغاضبة نحوها، الأمر الذي سيحدد إن كانت تعز قادرة على طي صفحة الاغتيالات، أم أنها مقبلة على دائرة جديدة من الإنفلات، والتصعيد، والتراشقات السياسية والحزبية البعيدة كليا عن جوهر ما بذلت لأجله السيدة افتهان المشهري دمائها.