زهور السعيدي- نسوان فويس
في سوق بني الحارث الشعبي شمال العاصمة صنعاء، حيث يختلط ضجيج الباعة، يبرز محل صغير خلف طاولته الزجاجية، تقف فيه رحاب، المرأة الوحيدة في السوق التي تملأ كشكها بملابس الأطفال وأدوات التجميل النسائية. لقد حولت رحاب بدايتها المتواضعة من البيع في المناسبات إلى محل يفتح أبوابه يوميًا، متحديةً نظرات الاستغراب وصعوبات الحرب.
بداية من لا شيء
تقول رحاب، المعروفة بـ”أم نشوان”، وهي ترتب علب المكياج: “لم أرث تجارة أو مالًا، بل بدأت حياتي من الصفر بعد أن مرض زوجي وانقطعت الرواتب واشتدت الحرب. لم يكن بوسعي إلا التفكير في طلب الرزق لأعيل أطفالي، وكل ما أملكه كان مبلغًا صغيرًا ادخرته بشق الأنفس”.
وتضيف لـ”نسوان”: “حين قررت دخول السوق، طرقت أبواب تجار ملابس الأطفال وأدوات التجميل أبحث عن بضاعة بالدين لأُسدد قيمتها لاحقًا، لكنهم جميعًا رفضوا لأنني لا أملك ضمانات، وطلبوا ضمانات ذهبية وتجارية وشروطًا كثيرة أعجز عن توفيرها”.
تستعيد رحاب أيامها الأولى قائلة: “في البداية بحثت عن عمل ولم أجد، وخاصة أنني لا أملك إلا شهادة الثانوية وليس لدي خبرة. ثم اشتريت كمية قليلة من أدوات التجميل وملابس المواليد وكنت أحملها في كيس صغير وأتنقل من بيت إلى آخر أبيع في مجالس النساء والمناسبات وحفلات الولادة. تعرفت عليَّ بعض الزبونات، وفي بعض الأوقات كنت أبيع بمبلغ لا يتجاوز الألف ريال في اليوم الواحد، وبالكاد كان يكفي قوت يومنا، لكني واصلت ولم أتوقف عن البيع”.
محل صغير يبعث الأمل
لم تكتفِ رحاب الخالدي، وهي أم لثلاثة أطفال، بالبيع المتنقل. فبعد سنوات من الادخار والمثابرة، قررت أن تفتح محلًا صغيرًا “كشكًا” وسط السوق الشعبي، رغم ما واجهته من استهجان البعض.
قالت في حديثها لـ”نسوان”: “أول ما جلست في المحل، جاءني بعض الجيران وقالوا لا يليق أن تبقي هنا وسط الرجال، وأن الأفضل أن أضع عاملًا يبيع بدلًا عني، لكني رفضت، فبعد تعبي لسنوات لن أضيع مجهودي، ولن يحافظ على المحل أحد غيري”.
وأكدت: “وجودي هنا ليس مجرد بيع وشراء، بل هو رسالة أن المرأة قادرة على إدارة تجارتها بنفسها حتى في أكثر الأماكن صعوبة”.
سنوات الحرب والدموع
لم يكن الطريق خاليًا من الألم. تسترجع رحاب أصعب أيامها قائلة: “في البداية لم أستطع حتى تسجيل أطفالي في المدارس، وكانت الحرب في أشدها والقصف من حولنا. أحيانًا كنت أبيع وفي قلبي خوف من ألا أعود إلى البيت، وأيضًا أخاف على أطفالي عندما أتركهم في البيت. لم يفارقني الخوف والهم لحظة لسنوات”.
ثم أردفت: “مررت بليالٍ طويلة من البكاء والحيرة، لكني كنت مؤمنة أن الله لن يضيع تعبي، وأن الأزمات لا تدوم”.
ملهمة للنساء
تقول أم سلمان العودي، وهي ربة منزل: “أعرف رحاب منذ سنوات، فهي مكافحة ولم تمد يدها لأحد. زوجها مريض ولا معيل لها، ومع ذلك لم نسمع منها أبدًا أنها تشتكي من الظروف أو المرض، بل هي متفائلة على الدوام، فهي مثال على الصبر والعزيمة”.
أما الحاجة فاطمة مطهر فتقول إنها سمحت لابنتها بالعمل في أحد المولات بحي المطار بعدما رأت نجاح رحاب.
وأضافت: “رحاب ليست فقط صاحبة محل، بل ملاذ للنساء اللواتي لا يملكن المال. في الأعياد، تعطيهن ملابس لأطفالهن بالدين، وكثيرات بدأن مشاريع صغيرة بفضلها وفضل تشجيعها”.
أثر يتجاوز التجارة
ترى رحاب أن مشروعها لم يكن مجرد مصدر رزق، بل بداية لتغيير نظرة النساء لأنفسهن. وتوضح: “كثير من النساء يأتين إليَّ لشراء بضاعة ليبدأن مشاريعهن الصغيرة، وأنا أساعدهن بما استطعت حتى لو لم يملكن المال في البداية، فمع الصبر والاستمرار يأتي النجاح”.
تجاوز العقبات
قالت إلهام السامدي، المختصة الاجتماعية: “رحاب مثال حي على قدرة المرأة على تجاوز العقبات الاجتماعية والاقتصادية، خاصة في ظل الحروب والأزمات. دخولها سوقًا يهيمن عليه الرجال يعكس شجاعتها وكسرها لصورة نمطية ظلت تقيد النساء لسنوات”.
وأضافت: “المرأة حين تملك الإرادة والرؤية تستطيع أن تخلق مشروعًا من العدم، وهذا ما فعلته رحاب”.
وأكدت السامدي أن قصص النجاح الفردية للنساء مثل قصة رحاب تساهم في تحريك عجلة الاقتصاد المحلي، مشيرة إلى أن النساء في الأحياء الشعبية يلعبن دورًا كبيرًا في دعم الاستهلاك وتوسيع شبكات البيع، حتى وإن كانت مشاريعهن صغيرة.
وأشارت إلى أن تجربة رحاب تلهم غيرها من النساء، ليس فقط في العمل التجاري، بل في الإيمان بالذات والقدرة على الصمود، وهذا أهم أساس لأي مشروع ناجح. وقد لاحظنا الآن العديد من قصص النجاح التي ظهرت فيها النساء كقائدات وملهمات وصانعات للتغيير.
رسالة أمل
وختمت رحاب حديثها قائلة: “حتى لو لم يساندك أحد، يمكنك أن تصنعي طريقك بيدك. المهم أن تثقي بالله ثم بنفسك، وأن تعرفي أن كل تعب سيصنع لك طريقًا أفضل وفرحة قادمة”.