العودة من الموت

شارك المقال

سارة أحمد 

حين يُقال إن امرأة قد نجت من السرطان، لا تعني الجملة أنها استعادت حياتها كما كانت، بل هي شهادة على بداية رحلة جديدة، رحلة أشد قسوة، رحلة تلتقي فيها أجسادٌ منهكة وأرواحٌ متعبة، لا تُرى، ولا تُسمع. المرأة التي عادت من الموت، لم تعد كما كانت، بل تواجه معركة أخرى، لا تقل وحشية، لكنها أكثر هدوءً وغموضاً، معركة في صمتها، معركة تحيا فيها وسط ثقل الجسد وانطفاء الروح.

تبدأ هذه المعركة من الأجساد التي لم تنتهِ من الألم، حيث تتراكم السوائل في الذراع أو الساق بعد استئصال العقد اللمفاوية، فتحتبس في أنسجة الجسم محدثة تورماً ثقيلاً لا يزول بسهولة. هذا الاحتباس اللمفاوي يتحول إلى عبء دائم يضغط على كل حركة، يضغط على كل لحظة، فيشعر الجسد بثقل لا يمكن وصفه بالكلمات، ثقل يشبه جبلاً يكتم النفس ويجعل أبسط المهام كحمل الأشياء أو المشي لمسافات قصيرة صراعاً يومياً لا يهدأ. لم يعد فتح باب أو حمل كيس أمراً يسيراً، بل تحدياً يومياً لا يعرفه إلا من عانى. ما كان سهلاً بات مستحيلاً، وحركات بسيطة أصبحت معارك صغيرة.

لكن الألم لا يكمن في الجسد فقط، بل في الروح التي تنطفئ ببطء، التي تقاوم لكنها تضعف، التي تجرحها الاضطرابات الهرمونية وتغير المزاج، وتكسر التوازن النفسي، فتغرق في دوامة من الاكتئاب والإرهاق النفسي المستمر. تلك التغيرات التي تفرضها العلاجات الاشعاعية أو الكيماوية أو العمليات الجراحية، تضيف عبئًا لا يرى ولا يحسب، لكنه لا يقل وطأة عن الألم البدني.

ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد، فالتغيرات الهرمونية الشهرية الطبيعية، تتحول إلى دائرة لا تنفك عن الكفاح، حيث تتصارع المرأة مع موجات متقلبة من الألم والضعف والاضطرابات المزاجية، في معركة متجددة لا تتوقف. كل شهر يعيدها إلى بداية المعاناة المرضية، ليجعل منها مقاتلة لا تهدأ، تتقلب بين مقاومة الألم الجسدي والانكسار النفسي.

وفي خضم هذه المعاناة، يبرز العلاج الفيزيائي كضرورة حتمية، ليس فقط كوسيلة للتخفيف من ثقل الاحتباس اللمفاوي، بل كطريق لاستعادة القدرة على الحركة والحيوية المفقودة. هو ذلك الضوء الخافت في نهاية نفق الألم الجسدي، الذي يمنح الجسد فرصة ليعود ولو قليلاً إلى خفته، يحرره من قيد الثقل والاحتباس.

بالموازاة، يحتاج هذا الجسد المتعب إلى روح تُعانقها الرعاية النفسية، إذ لا تكفي القوة البدنية وحدها، فالألم الذي لا يُرى في القلب، والاضطراب الذي يعصف بالمزاج، يتطلبان معالجة عميقة وشاملة. النفوس هنا في أمس الحاجة إلى أن تسمع وتُفهم، كي تواصل القتال، كي لا تذوب في وحدتها.

أما العودة إلى الحياة، فليست قراراً آلياً ولا لحظة فاصلة تنقلب فيها الصورة من ظلمة إلى نور. إنها عملية معقدة، بطيئة، ومترددة. فبعد الانقطاع القسري عن العمل، والانفصال المؤلم عن الحياة الاجتماعية، ووسط حالة من الإرهاق المتراكم، تجد المرأة نفسها أمام سؤال معلّق: كيف يمكن استئناف حياة لم تعد هي نفسها؟ ليس من السهل أن تعود إلى مقعدها المهني أو دورها الاجتماعي بذات الطاقة، ولا أن تنخرط من جديد في سياق النجاح كما لو أن شيئاً لم يكن.

إن ما يتبقى بعد المرض ليس فقط ضعفاً في الجسد، بل هشاشة في الدافع، وتراجع في الرغبة، وكأن الحلم ذاته قد تهشم تحت وطأة الألم، وكأن الزمن نفسه أصبح أثقل من أن يُركض خلفه. تلك العودة، في حقيقتها، ليست مجرد اندماج، بل مقاومة متأنية لفكرة الانطفاء، ومحاولة لاختبار المعنى من جديد، في واقع لم يعد يشبه ما قبل المرض.

ومع هذا كله، تبقى هذه المرأة وحيدة في مواجهة أعبائها، إذ لا تزال أغلب الأنظمة الصحية تركز فقط على المعركة الأولى، تلك التي تتعلق بعلاج المرض نفسه، لكنها تغفل ما بعد المرض، من رعاية لجسد يئن، وروح تحتاج إلى شفاء، وهرمونات تطلب توازناً جديداً، ومعاناة لا توصف ولا تفهم إلا من خلال تجاربها الخاصة.

إنها لا تطلب التعاطف أو الشفقة، لكنها تحتاج إلى أن يُفهم ألمها، أن تُحتوى معاناتها، أن يُعترف بها كمقاتلة لا تهزم. فالسرطان قد يقتل، لكنه لا ينهي الصراع، بل يعيد تشكيل الحياة بألوان جديدة من الألم والقوة والمرارة. هذه المرأة التي نجت من الموت، ليست هي نفسها التي دخلت المعركة، بل امرأة أخرى، أقوى وأضعف في آن واحد.

في نهاية المطاف، لا نحتاج فقط إلى علاج الأجساد، بل إلى إعادة بناء الأرواح، إلى رعاية شاملة تأخذ بالاعتبار كل ما تختبره المرأة بعد السرطان، لأن العودة من الموت ليست مجرد نجاة، بل بداية رحلة جديدة، رحلة تستحق أن تُروى، أن تُفهم، أن تُعاش بكل أبعادها.

مقالات اخرى