مشاعر نبيل – نسوان فويس
في ظل الشح الحاد في الفرص الوظيفية باليمن، أصبح الحصول على عمل حلماً يومياً وضرورة للبقاء بالنسبة للعديد من الفتيات، بل وأحياناً مجرد سبيل للشعور بقيمة الشهادة الجامعية التي بذلن الجهد لتحصيلها.
إلا أن هذا البحث المحموم عن الأمل قد تحول إلى فخ نصب واحتيال، حيث تنتشر في أزقة صنعاء وعبر مواقع التواصل الاجتماعي إعلانات لمكاتب توظيف وهمية.
هذه المكاتب تعد بفرص عمل مغرية وبرواتب خيالية، لكنها لا تطلب سوى “رسوم تسجيل” بسيطة، ليتضح لاحقاً أن المكالمة الموعودة لا تأتي أبداً، وتتبخر الأحلام مع الأموال المدفوعة.
شهادات الضحايا
تتعدد القصص المأساوية لفتيات وثقن بهذه الإعلانات، فدفعن أموالهن القليلة التي جُمعت بصعوبة، وخضن جولات من الأمل والانتظار، ليجدن أنفسهن في نهاية المطاف أمام خذلان قاسٍ، وربما استغلال أكبر.
تروي “نور”، إحدى الضحايا، تجربتها مع مكتب أعلن عن وظيفة سكرتارية في عيادة أسنان بشارع بغداد بصنعاء، براتب 80 ألف ريال يمني لفترة عمل واحدة.
تقول نور بحسرة: “طلبوا منا استكمال بياناتنا ودفع 2500 ريال رسوم تسجيل. أعطونا وعوداً بأننا سنباشر العمل خلال أسبوع. وبعد أيام قليلة، أُغلقت كل الأرقام.”
ما حدث مع نور تكرر مع عشرات غيرها، كل مرة بطريقة جديدة، وباسم مختلف، وبوعد وظيفي أكثر إغراءً، ليُكشف في النهاية أنه مجرد وهم.
خيبات متتالية وأمل محبط
قصص النصب لا تتوقف فالشابة شفاء يوسف، خريجة هندسة كيميائية، تُشارك تجربتها مع مكتب وعد بـ “فرص عمل حقيقية ومضمونة”: “دفعت 2500 ريال مقابل اشتراك سنوي، ووعدوني بإرسال إعلانات حصرية على الواتساب.
“استلمت إعلانات كثيرة، لكن كل وظيفة كانت وهمية؛ تارة الشركة غير موجودة، وتارة أخرى الوظيفة مختلفة أو المكان غير متواجد من الأساس. وإن وجدته، فإنه لم يكن يحتاج إلى موظفين أصلاً.” تقول شفاء
وتضيف بحسرة: “شعرت بخيبة أمل حينها، واتصلت بالمكتب وأخبرتهم أن الوظيفة ليست كما أُعلن عنها، ولم أجد منهم أي رد مقنع غير التجاهل فقط.”
أما “خديجة” (اسم مستعار)، فتروي خيبة أملها بعد تقديمها لوظيفة مدخلة بيانات: “بعد أن رأيت إعلان الوظيفة، قدمت إلى المكتب ودفعت الرسوم وذهبت إلى مقر الشركة. أخبروني حينها أنهم يبحثون عن موظفة أرشيف وليست مدخلة بيانات، وأن المكتب أعلن عن وظيفة لا يحتاجونها.”
دفع البحث عن الأمل بطالبة الثانوية العامة “أسماء” إلى دفع مبلغ 2500 ريال مقابل وعود بوظائف ستغير حياتها وتُمكّنها من العودة للجامعة. “دفعتُ المبلغ دون أن أحصل على استمارة التقديم، وطلبت مني السكرتارية العودة في اليوم التالي. عدتُ مجدداً وقابلت سكرتارية جديدة أعطتني رقم المدير وطلبت مني التواصل معه لأنها لا تملك أي معلومات عني.”
تتنهد أسماء بحزن: “تواصلت مع المدير الذي كان يتجاهل مكالماتي تارة ويرد ويعتذر ويعطيني وعوداً جديدة تارة أخرى. وبعد شهر من الذهاب والعودة للمكتب، خسرت قيمة مواصلات وخسرت أحلاماً كبيرة. استسلمت ولم أبحث مجدداً عن تلك الوظيفة.”
تُضيف “أحلام الصلوي“، خريجة جيولوجيا: “دفعت 2500 رسوم اشتراك سنوي لمجموعة العمل الخاصة بالتوظيف. عشرات الوظائف كانت غير مناسبة، دون الاهتمام باختلاف التخصصات، على الرغم من أنني كنت أبحث عن أي وظيفة تساعدني على الحياة حتى وإن لم تكن في مجال تخصصي.”
في قصة مشابهة، تروي “سعاد” تجربتها مع مكاتب التوظيف مع صديقتها بعد التخرج: “بعد التخرج من الجامعة كان الوضع صعباً جداً فبدأنا رحلة البحث عن وظيفة. كانت بدايتها في أحد مكاتب التوظيف القريب منا. بعد أن دفعنا 2000 ريال يمني لكل واحدة منا، بدأنا بدوامة البحث عن الوظيفة المناسبة والتقديم على الوظائف التي كان يرسلها إلينا المكتب. معظم الوظائف لم تكن تناسبنا، ورغم أننا أجرينا عدداً قليلاً من المقابلات، لم نتوصل لأي وظيفة. أنا أرى أن مكاتب التوظيف أكبر كذبة يتم النصب على عقول الشباب من خلالها.”
تُضيف سعاد: “كانت تجربتي مع مكاتب التوظيف مرة واحدة فقط واشتراك لمدة عام، لكن صديقتي كانت تشترك مع أكثر من مكتب ولأكثر من عام وتدفع رسوماً لكل مكتب تتراوح بين ألفين وخمسة آلاف ريال يمني.”
قانون غائب ورقابة ضعيفة
هذه الممارسات الاحتيالية تندرج تحت طائلة القانون اليمني. فالمادة (310) من قانون الجرائم والعقوبات اليمني تنص على أن من يحصل على أموال من شخص عن طريق الإعلانات الكاذبة أو صفة وهمية، يُعاقب بالحبس حتى ثلاث سنوات، أو بدفع غرامة مالية.
يوضح المحامي عبد القادر أحمد أن: “أي شخص يُنشئ مكتب توظيف وهمي، أو يُعلن عن وظيفة وهمية لأخذ أموال من المتقدمين، يقع تحت طائلة القانون بتهمة النصب والاحتيال. وإذا ثبت ذلك، تُلزم المحكمة الجاني بإعادة الأموال وتعويض المتضرر.”
ويُضيف: “السكوت عن هذه الجرائم يشجع على استمرارها. لذلك من المهم الإبلاغ مباشرة عنها لدى أقسام الشرطة، أو الجهات القضائية المختصة.”
وعن كيفية استرداد الحقوق، يوضح: “على الفتاة أن تحصل على سند مختوم بختم المكتب بأي مبلغ تدفعه كدليل في حال تم الاحتيال عليها، وفي حال تم الاحتيال على الفتاة أن تتوجه إلى النيابة المختصة أو أقرب قسم شرطة، وتقديم شكوى ليتم ضبط صاحب المكتب واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة وإعادة الأموال التي حصل عليها بغير وجه حق.”
لكن الكثيرات يتجنبن هذه الخطوة. تُعلق أحلام في ذات السياق: “لا يمكنني أن أشتكي وألاحق وهماً جديداً لاسترداد حقوقي من أجل ألفي ريال، حتى أنها لن تكون قيمة مواصلات في رحلة الشكاوى والبحث عن استرداد الحقوق.”
يشير الصحفي الاقتصادي رشيد الحداد أن هذه المكاتب بدأت بالظهور في مطلع الألفينات، وكان عملها الأصلي هو التنسيق بين الشركات وطالبي فرص العمل، لكنها للأسف لا تتبع وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، التي يُفترض بها تنظيم مثل هذه الجهات ومراقبتها.
وبحسب الحداد، الأسوأ هو وجود مكاتب تقوم بتسجيل غير محدود وتأخذ رسوماً، ولا تقدم الخدمات بشكل كامل، “وللأسف لم نرَ أي مكتب تم إحالته إلى الجهات المعنية.”
ويعزو الحداد السبب إلى أن الكثير من الفتيات يسكتن عما يتعرضن له من انتهاكات أو أساليب تعامل غير لائقة، إضافة إلى أن الكثير من الفتيات يقمن بالبحث عن العمل باستحياء بسبب القيود التي تفرضها العادات والتقاليد، ما يجعلهن أكثر عرضة لمثل هذا الاحتيال لأنه الطريقة الوحيدة في نظرهم للنفاذ إلى سوق العمل.
يُضيف الحداد لـ”نسوان فويس”: “لا توجد أرقام حقيقية من الجهات المعنية لعدد ضحايا هذه المكاتب، وما كشف ممارسات هذه المكاتب هم بعض الشباب على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن مع ذلك يبقى الأمر كما هو في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية، وهناك تراجع في العرض من قبل القطاع الخاص نظراً لدوره المحوري في السنوات الأخيرة في توفير الأعمال والوظائف.”
ويُشدد الحداد على ضرورة تكليف وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل بتنظيم هذه المكاتب ووضعها تحت الرقابة الحقيقية، وفتح غرفة عمليات لاستقبال شكاوى المواطنين، “لأنها أصبحت مصيدة للعاطلين عن العمل، فتعدهم بفرص وتضعهم أمام آمال كبيرة لا أساس لها من الوجود.”
ويُقدر أن العشرات يقعون يومياً في هذه المصيدة من طالبات العمل، مشيراً إلى أن سوق العمل اليمني بحاجة إلى 200 ألف عامل وعاملة جدد يدخلون إليه، وغالبيتهم يقعون في مثل هذه المصائد في ظل انحسار وتراجع كبير جداً في فرص الأعمال نتيجة توقف المشاريع الاستثمارية وانقطاع المرتبات الحكومية.
توصيات للحد من الظاهرة
تُؤكد الأخصائية الاجتماعية سوسن ناجي أن هذه الظاهرة تتفاقم بسبب الوضع الاقتصادي المتردي، وقلة الوعي القانوني، وغياب الرقابة الفعالة. وتقول: “للأسف، بعض هذه المكاتب قد تُستخدم كغطاء للاستغلال، خصوصاً مع الفتيات. لذلك من المهم جداً تعزيز الوعي بين الشابات بعدم الاندفاع خلف أي إعلان دون تحقق.”
وتقترح ناجي حلولاً عملية للحد من الظاهرة، منها: نشر قائمة بالمكاتب المرخصة رسمياً من الجهات الحكومية، وتنظيم حملات توعية مكثفة عبر الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي تهدف إلى زيادة وعي الناس لعدم الانجرار وراء الإعلانات الوهمية، بالإضافة إلى تخصيص أرقام ساخنة أو آليات واضحة لتبليغ الفتيات عن حالات الاحتيال.
تُؤكد سوسن على ضرورة هذه الخطوات لحماية الباحثين عن عمل، وضمان عدم استغلال أحلامهم وطموحاتهم في ظل هذه الظروف الصعبة، التي تُجبرهم على البحث عن أي بصيص أمل.