زهور السعيدي- نسوان فويس
“هديل محمد”، في عقدها الثاني، فقدت عريسها بعد شهرين فقط من زواجهما، حين سافر في رحلة اصطياد اعتيادية في ساحل البحر الأحمر.
تحول سفره إلى كابوس بعد مرور الوقت دون عودته. ثلاث سنوات مرت على فقدان زوجها، وما زالت هديل تتمسك بأمل عودته، رغم الألم الذي يتزايد مع كل يوم يمر.
قصة هديل ليست فريدة؛ فهي واحدة من عشرات النساء في السواحل اليمنية اللاتي يعشن هذا المصير، لا يعلمن شيئًا عن مصير أحبائهن الذين ابتلعهم البحر.
البحر الأحمر من مصدر رزق إلى ساحة صراع
في الماضي، كانت الرياح الموسمية الشديدة التي تهب في موسم الشتاء هي التهديد الوحيد للصيادين على الساحل الغربي لليمن. أما اليوم، وكما تقول نساء الصيادين، فقد تعددت أسباب ومصادر المخاطر التي تحيط بمهنة الاصطياد التقليدي في البحر الأحمر. فقد تحول البحر إلى ساحة نزاع مسلح، وباتت البوارج والقطع الحربية تتخذ منه مسرحًا لعملياتها، ناهيك عن التحليق المستمر للطيران الحربي.
يسافر الصيادون المحليون إلى أعماق البحر لأيام وليالٍ على متن قوارب خشبية تقليدية صغيرة، وسط كل هذه التهديدات والتحديات. وكثيرًا ما ذهب العديد منهم ضحايا، تاركين الحزن والحسرة والوجع لعائلاتهم.
الموت جوعًا أو غرقًا
يُعتبر قطاع الأسماك ثاني أكبر قطاع اقتصادي بعد النفط قبل أن يتعرض لخسائر اقتصادية بسبب الحرب والحصار، ففي عام 2004، بلغ إجمالي الإنتاج السنوي 256 ألف طن.
ومع ذلك، شهد القطاع تراجعًا ملحوظًا، حيث وصل الإنتاج إلى 200 ألف طن خلال عام 2013. يُقدر عدد العاملين في هذا القطاع الحيوي بأكثر من 315 ألف عامل. بحسب صحيفة الثورة الرسمية، والصادرة من صنعاء.
وفقًا للمجلس النرويجي للاجئين، قُتل أو جُرح ما لا يقل عن 334 صيادًا خلال السنوات العشر المنصرمة. بحسب ماذكرته مجلة لنيو لاينز الأمريكية.
وتُعتبر الرياح الموسمية أكبر تهديد للصيادين خلال الفترة من ديسمبر إلى مارس، بالإضافة إلى المخاطر المحيطة بالصيادين بعد اندلاع الصراع العسكري في البحر الأحمر. يقول الصياد “أبو سلام”: “حياتنا هي عبارة عن الموت جوعًا أو غرقًا. لقد أصبح الدخول إلى البحر للاصطياد في قمة الخطورة، وإن نجوت من الغرق بسبب الرياح والأمواج فلن تنجو من القصف.”
قلق دائم و وداع أخير
بخلاف حالات الاختطاف التي تُعلن لدى السلطات الإريترية، والتي أفرجت عن عدد من المحتجزين في مايو الماضي، هناك عشرات المفقودين الذين لا يُعلَن عنهم، ويُخشى أن يكونوا قد لقوا حتفهم في عمق البحر.
نساء وأمهات الصيادين يعشن وسط قلق دائم مع بداية كل رحلة صيد على امتداد السواحل اليمنية. وتُعتبر منطقة الساحل الغربي الأشد خطورة؛ إذ يتعرض فيها الصيادون للقتل أو لتدمير قواربهم بسبب الأوضاع الحالية في البحر الأحمر.
تُعد مهنة الاصطياد في ظروف الحرب مغامرة خطيرة تُعرّض حياة الصيادين للمخاطر، غير أنهم، كما يقولون، “مجبرون على خوض المخاطر بحثًا عن لقمة العيش، لأن الخيار الثاني هو جوع وضياع أبنائهم وتفكك أسرهم.”
تقول “عَلِيّة الربيد” إنها فقدت اثنين من أبنائها في رحلة صيد قبل 4 سنوات، وزوجها في هذا العام عندما غرق قارب الصيد الذي كان على متنه 11 شخصًا في فبراير الماضي. تحولت حياتها إلى خوف متواصل ورعب من سماع كلمة “بحر”.
تضيف لـ”نسوان فويس”: “عثروا على جثة زوجي بعد أن جرفها الموج إلى الشاطئ ورأيته، ولكن أبنائي لم يتمكن رجال خفر السواحل من العثور عليهم رغم البحث الكبير.” تستطرد والدموع تترقرق في عينيها: “لم يجدوا إلا قاربهم مقلوبًا في البحر ولم نعرف عنهم شيئًا. ولهذا لم أفقد الأمل رغم مرور 4 سنوات، ما زال لدي أمل أن يعودوا ولم يتضاءل أملي رغم مرور السنوات.”
وتضيف: “خيارات صعبة أمامنا بعد أن فقدت زوجي وأبنائي، الذين كان الخيار الوحيد أمامهم هو مهنة الاصطياد. وكذلك كل العائلات في مدينة الحديدة التي يعتبر البحر رزقهم الوحيد، هم أمام خيارين: الموت جوعًا أو التضحية بأبنائهم في البحر. وأصبحت حياة الصيادين وعائلاتهم لا تُطاق، فما يحصلون عليه لا يكفي لتوفير قيمة ثلاث وجبات يومية لهم ولأسرهم ولا قيمة الدواء أو دفع فاتورة الكهرباء.”
مخاوف متعددة وحاجة للدعم
وتتفاقم معاناة من فقدن معيلهن في البحر، حيث أن مهنة الاصطياد هي المصدر الوحيد لعيشهن وأطفالهن. تقول “أم عبد الله” إنها أصبحت تعيش في وضع صعب للغاية بعد فقدان زوجها الذي كان يعمل بمهنة الاصطياد، وتتصاعد مخاوفها على مصيرها ومصير أطفالها وكيف ستؤمن لهم قيمة الغذاء والدواء.
يقول “سالم صديق”، عضو الاتحاد التعاوني السمكي، إنه “لا يمر أسبوع دون أن تسمع نساء وعائلات الصيادين عن تعرض أبنائهن للغرق أو انقلاب القارب أو تعرضهم للإصابات، مما يجعل حياتهن مليئة بالخوف.” ورغم المخاوف الكبيرة، “لا يوجد أمام السكان في المناطق الساحلية إلا مواصلة الصيد باعتباره المهنة المتوارثة والمصدر الوحيد لعيشهم وأطفالهم.”
“هديل”، التي تعيش الآن في منزل والدها، تعاني من قسوة الأهل والمجتمع. يرى والدها أنها لا تزال شابة وعليها أن تتزوج، بينما هي لا تزال على أمل أن يعود زوجها لأنها لا تعلم عن فقده شيئًا، معززة رأيها بعودة زوج صديقتها بعد خمس سنوات من فقدانه.
تضيف هديل في حديثها لـ”نسوان فويس”: “بعد مرور أسبوعين من رحلة زوجي، كنت أرى الدموع في عيني عمتي ليل نهار. تجلس بمقابل باب المنزل منتظرة، تحدث نفسها: لقد انتهى الأسبوعان ولم يعد.” انتبهت بعدها أنه الموعد المحدد لرجوعه، حيث أنهم لا يذهبون بعيدًا وتكون رحلتهم لا تتعدى الأسبوعين، وإن تأخروا فإن كارثة ألمت بهم.
الدعم اللازم: حاجة نفسية واقتصادية
تقول الأخصائية النفسية وفاء مطهر: “إن هؤلاء الضحايا من أقارب الصيادين يمرون بحالة قلق وحزن واكتئاب وخوف، خاصة إذا لم يكن لديهم معلومات عن مصير المفقودين، هل توفوا أو ما زالوا على قيد الحياة. لذلك، فهن في حاجة للدعم والتعاطف معهم وتشجيعهم على التعبير عن مخاوفهم.”
تضيف مطهر: “يحتاجون إلى دعم نفسي متخصص إذا دخلوا في حالة قلق أو اكتئاب بحيث يستطعن التعايش، إضافة إلى مساعدتهن على مواجهة ظروف الحياة، وهذه مسؤولية ملقاة على الدولة.”
وتشير إلى أن توفير الاحتياجات الأساسية وتأمين المأكل والملبس والمسكن لهؤلاء النسوة وأطفالهن، بالإضافة إلى التعليم والصحة، من شأنه أن يساهم إلى حد كبير في مساعدتهن وإخراجهن من حالة الحزن والإحباط.
وتؤكد الأخصائية النفسية فردوس الرباصي على ضرورة تقديم دعم نفسي أولي، وذلك من خلال مشاركة تجربتهن وأثر الفقد عليهن، مما يسمح بالتنفيس الانفعالي وتخفيف حدة المشاعر والذكريات، ومن ثم يكون الاهتمام بالحالة الفردية حسب احتياجها، حيث يتوجه في مثل هذه الحالات إلى العلاج التكاملي حسب الاحتياج.
تضيف الرباصي: “لدعم هؤلاء الضحايا من أقارب وعائلات الصيادين الغائبين، يجب أولًا معرفة ما إذا كن يحتجن للإحالة إلى طبيب نفسي وأدوية أو إلى جلسات علاجية، وذلك قبل مساعدتهن في جوانب التمكين الاقتصادي.”