الفل عند نساء تهامة مصدر دخل وفرصة للتعليم

شارك المقال

أمل جابر _ نسوان فويس

كان ولا يزال تشكيل ونظم زهور الفل بأشكاله المختلفة حرفة اجتماعية وتراثية هامة ارتبطت بجميع مناسبات اليمنيين السعيدة؛ كما تعتبر مصدر دخل وعمل للكثير من الأسر، وبعد أن كان هواية للكثير من النساء والفتيات في تهامة تحول إلى حرفة رئيسية لتوفير متطلبات الحياة وتكاليف الدراسة للكثير منهن خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة وانقطاع المرتبات وارتفاع تكاليف المعيشة.

والنظم مأخوذ من ترتيب الشيء وتنظيمه وهو الخطوة الأولى لصناعة أشكال مختلفة ومتنوعة من عقود وألبسة الفل التي يتزين بها الرجال والنساء في مختلف المناسبات في اليمن وبعض دول الخليج العربي، وهناك عدة أنواع لنظم الفل أشهرها ما تسمى شعبيا بـ”العكاوات” وهي عبارة عن صف متزاحم من حبات الفل ترص عن طريق ربط كل حبة بعقدة خيط على شكل سلسلة متوسطة الطول تصنع منها عقود الفل بنماذج عدة، وزينة الرأس للنساء فائقة الروعة والاتقان، والمسابح وهي سلسلة طويلة من حبات الفل تستخدم لتغطية شعر وظهور النساء في المناسبات السعيدة كنوع من الزينة والإبهار.

نورة العبسي، ذات الـ22 عاما، تعمل في نظم الفل بمنطقة عبس محافظة حجة شمال غربي البلاد، تستعد منذ ساعات الصباح الأولى مع بعض قريباتها للعمل على صنع عدة تشكيلات من الفل لإنهاء طلبية لإحدى حفلات الزفاف في المنطقة بأشكال وأحجام مختلفة، ولرفد السوق والباعة المتجولين بالفل لبيعها على المواطنين، بعد أن سهرن نصف الليلة الماضية في تجهيز وإعداد الخيوط والمستلزمات التي سيتم النظم والتشكيل عليها.

تحكي نورة بسعادة كبيرة عن عملها الذي مكنها من مساعدة والدتها في توفير متطلبات الحياة، قائلة: “نحن وحيدتان ولا ننتظر من أحد أن يقدم لنا يد العون والمساعدة”، كانت تحدثنا وهي مستمرة في رص حبات الفل بسرعة عالية ودقة متناهية، فعملها لا يحتمل التأخير، فالساعة تتجه نحو الـ 12 ظهرا وهو وقت الذروة للبيع وتوزيع عقود الفل على الباعة في الأسواق.

وتشير نورة إلى أن حرفة نظم وتشكيل الفل ترتبط ارتباط وثيق بحفلات الزفاف والتخرج والأعياد والمناسبات الاجتماعية، إلا أنها كانت مجرد حرفة بسيطة أو هِواية عند الكثير من الشابات والفتيات الصغيرات، لكنها تحولت في السنوات الأخيرة إلى مصدر دخل حيوي ورئيسي للكثير من الأسر.

وتواصل وهي تلف خيوط الفل بحرفية عالية: “عندما بدأت الحرب ومرت أشهر من انقطاع المرتبات، أدركت أن هذه الحرفة يمكن أن تكون مصدر رزق لمساعدة أخي الذي توفي قبل أربع سنوات في حادث مأساوي، على توفير تكاليف المعيشة ومستلزمات زفافه، وبعد وفاته، بدأنا في تنظيم العمل وتوسيعه وتطويره ليصبح أكثر إنتاجية وإبداعا ليلبي رغبات الزبائن ويدر المزيد من المال”.

فرصة لمواصلة التعليم


وتوضح سمية _طالبة في الثانوية العامة _ أنها تبدأ العمل في نظم الفل منذ الصباح الباكر، حتى الظهيرة ثم تذهب للمدرسة رغم الضغط الكبير، لتتمكن من توفير مصاريف دراستها، ومواجهة التحديات الاقتصادية والمعيشية التي كادت تعيقها عن إكمال تعليمها في زمن الحرب، خاصة أنها تسكن في منطقة بعيدة وتحتاج لمواصلات للذهاب للمدرسة ودفع أقساط التعليم الخاص في ظل تدني مستويات التعليم الحكومي بشكل كبير وملحوظ.

وتقول ريهام وهي إحدى المشاركات: “نحن نعمل بشكل يومي مع بعضنا البعض على إيجاد أشكال وتنسيقات جديدة لرفد السوق، وهو ما يجعلنا قادرات على الاستمرار في إنتاج المزيد في وقت أقل وبالتالي نضاعف من دخلنا، كوننا نعمل لتأمين احتياجاتنا الأساسية من المعيشة إضافة إلى دراستنا الجامعية.

تحديات ومشاركة جماعية

وفي حلقات متفاوتة وعلى كراس خشبية وسط غرف وصالات البيوت تجتمع الفتيات والنساء في مجموعات صغيرة في الكثير من البيوت التهامية لمشاركة عمليات النظم لرفد السوق بالعدد والكمية المطلوبة، حيث تُعدّ حرفة نظم الفل مدخلًا لتحسين وضعهن الاقتصادي، إلا أن موسم الشتاء يقل فيه تفتح أزهار الفل وبالتالي تقل كميات إنتاجه مقابل ارتفاع قيمته السعرية في السوق وهو ما يحد من الطلب عليه، ومعها تمثل واحدة من أحد أهم الصعوبات والتحديات التي تواجههن وتحبط معنوياتهن.

إضافة إلى أن حرفة نظم وتشكيل الفل حرفة آنية ووقتيه تحتاج لمهارة وإتقان وسرعة كبيرة كونها حرفة يومية، حيث تذبل زهور الفل وتصبح غير صالحة للنظم والتشكيل إذا تأخرت بعد قطفها أو وضعت في البرادات للحفاظ على حيويتها، ورغم ضغط الوقت إلا أن الفتيات يعملن على تطوير مهاراتهن في تشكيله بشكل احترافي لإنتاج عقود بأشكال مبتكرة، ما يزيد من فرص الطلب عليه رغم غلاء سعره.

فرصة حياة

وفي حديث آخر مع سارة (اسم مستعار) وأم لخمسة أطفال، تكشف عن تجربتها في تحويل صناعة الفل إلى وسيلة لإعالة أسرتها بعد انقطاع راتب زوجها الذي يعمل مدرسا، تقول سارة: “عندما أصبح زوجي بدون مرتب بدأت في تعلم نظم الفل، وجمعت مبلغ مالي بعد مرور سنوات لشراء باص صغير لزوجي ليتمكن من العمل والمساهمة في توفير تكاليف العيش واحتياجات الدواء والغذاء وتعليم الأولاد”.

وبحسب الخبيرة النفسية مريم مرتضى فإن الأوضاع الاقتصادية التي عانى منها المجتمع منذ العام 2015 قد أثرت بشكل كبير على سلوكيات الأفراد وأنماط حياتهم وخاصة السيدات والفتيات الصغيرات في سن الدراسة، مشيرة إلى أن الأعباء التي تحملنها حدت كثيرا من خياراتهن وجعلتهن يفضلن الانخراط في هذا العمل حتى وإن كان يؤثر على صحتهن الجسدية كونه يحتاج لساعات طويلة من الجلوس والعمل، على البقاء مكتوفات الأيدي وخسارة العديد من الفرص لتحسين ظروفهن المعيشية.

وتضيف مرتضى إن توفر مثل هذه الحرف يزيد من فرص تحسين الحالة النفسية للنساء خاصة أولئك اللواتي نزحن من منازلهن بسبب المواجهات أو كن قريبات من مناطقها؛ كونها تمنحهن فرصة للشعور بتقدير الذات ومشاركة المسؤولية والمساهمة الاجتماعية الفاعلة إضافة إلى أنها مجال للإبداع والابتكار والراحة النفسية لارتباطها بأحد عناصر الطبيعة وهو الورود وتشكيلاتها البديعة.

ترتبط زهرة الفل ارتباط وجداني بحياة النساء في تهامة، إذ لا تخلو جلساتهن اليومية من التزين به على الرأس أو بعقود صغيرة، وتشتهر تسريحات الشعر في الأعراس بـ”الشرديخة” وهي تغطية شعر الرأس بعقود إما طويلة أو قصيرة من الفل.

مقالات اخرى