المرأة اليمنية وصون التراث: قصة إلهام وصناعة القمريات

شارك المقال

نورا الظفيري _ نسوان فويس

إلهام الكبسي هي امرأة يمنية صقلتها الحياة اليومية الريفية. منذ طفولتها المبكرة، اعتادت العمل في العديد من الحرف اليدوية التقليدية التي اكتسبتها من بيئتها، بما في ذلك عائلتها والقرية التي نشأت فيها. كانت تقوم بالخياطة والتطريز وحياكة الأحزمة الرجالية. ومع مرور الوقت، تطورت مهاراتها لتشمل النحت والزخرفة والفنون وصناعة القمريات.
لم تقتصر إلهام، البالغة من العمر 35 عامًا، على التطور في المجال الحرفي فحسب، بل أصبحت معيدة في جامعة صنعاء ولديها تخصصان أكاديميان؛ الأول في الشريعة والقانون، والثاني في التاريخ والعلاقات الدولية. كما أكملت درجة الماجستير في التاريخ الإسلامي، حيث تخصصت في التدوين الدقيق والعمل على المخطوطات والتراث الثقافي المكتوب.
تقول إلهام إن بدايتها في صناعة القمريات تعود إلى عام 2020، حين انضمت إلى تدريب أقيم في المركز المعماري التابع للهيئة العامة للمحافظة على المدن والمعالم التاريخية. وكان التدريب حول صناعة القمريات جزءًا من سلسلة تدريبات متخصصة في الحرف التقليدية. تعلمت الأساسيات من المهندسين ياسين غالب وصالح عطيف، وكان ذلك مصدر إلهامها لخوض تجربة صناعة القمريات.


تقول إلهام: “إن اهتمامي بالموروث الثقافي الإسلامي قادني للانجذاب إلى التدوين، فأنظر إلى المادة العلمية المكتوبة عن التراث من خلال اهتمامي بالمخطوطات. وكانت الدورة التدريبية فرصة للتعرف عن قرب على أحد عناصر التراث المعماري اليمني وكيفية صناعتها”. وكنت في الوقت ذاته أبحث في المخطوطات اليمنية القديمة عما كُتب عن حرفة صناعة القمريات”.

وتوضح أن دمج القراءة في المخطوطات مع التطبيق العملي هو أفضل وسيلة لمعرفة كيف كانت تتم الحرف في الماضي.
وتشير إلهام إلى أن دخولها مجال صناعة القمريات ساعدها في الجانب العلمي، حيث مكّنها من قراءة الفن في هذا المجال، فعند النظر إلى تنظيم المدينة بطريقة معينة وتوزيع السكان، تُدرس هذه الجوانب في التاريخ والجغرافيا. ولكن عند النظر إليها من الناحية الفنية والزخرفية والتراثية، نجد أنها تمثل تراثًا عالميًا لا يتأثر بالسياسة أو الجغرافيا أو بأي عوامل أخرى.

إنها لغة فنية عالمية تتواصل مع الفنون الأخرى، وتتأثر بها وتؤثر فيها، ولا تحدها حدود، بل تعبر الزمن والمكان، وتقول إلهام: “آمل أن يمكنني غوصي في مجال صناعة القمريات من قراءة الفن الذي أبحث عنه”.
تاريخ صناعة القمريات


تعددت آراء علماء التاريخ حول أول ظهور للقمريات والشمسيات المعشقة بالزجاج، ويرى الكثير من الباحثين أن هذا الفن هو فن عربي خالص، وأنه نشأ وترعرع كفن إسلامي في مختلف الدول العربية والإسلامية. وقد اختلفت الآراء حول مكان النشأة الأولى لهذا الفن، حيث يرى البعض أن النوافذ الجصية تطورت عن النوافذ الرخامية التي كانت تستخدم ألواح الرخام والمرمر الشفاف، والتي كانت موجودة قديمًا في كل من مصر واليمن، واستدلوا على ذلك بالنوافذ الرخامية في عمارة صنعاء القديمة.


وتشير التنقيبات الأثرية إلى أن النوافذ كانت موجودة في المباني اليمنية القديمة منذ أكثر من أربعة آلاف سنة، حيث كان اليمنيون القدماء يقدسون الإله القمر ويعتبرون صناعة النوافذ على شكل القمر نوعًا من التقديس.
يقول الهمداني في وصفه لقصر “غمدان” في القرن الثالث الهجري: “يتكون قصر غمدان من عشرين طابقًا تزينه النوافذ، وكان آخر طابق منه من الزجاج الشفاف الذي يُظهر الطيور في السماء”.
يُطلق اسم “قمرية” على الجزء العلوي من النوافذ، التي تكون في الغالب بشكل نصف دائرة، وربما استلهمت التسمية من شكل القمرية المشابه للقمر في شكل نصف دائرة، تعلو النافذة، ويفصلها عن الجزء السفلي منها عمود عرضي يسمى “عتبة” ويكون من الخشب أو الحجر، يفصل العقد عن النافذة ويشكل رفًا من الداخل.

القمرية نافذة للضوء، كانت قديمًا تصنع من الرخام الزجاجي الشفاف، ثم استخدم لصناعتها لاحقًا مادة الجص المعشق بالزجاج الملون على شكل زخارف نباتية أو حيوانية أو هندسية، وأحيانًا تضاف عليها كتابات تتناسق مع زخرفتها.

تختلف تسمية القمرية في بعض الأماكن في اليمن، حيث يُطلق عليها “التخريم” وأيضًا تسمى “العقود” نسبة إلى شكل العقد العربي الذي تكون عليه غالبية القمريات.
المرأة اليمنية و الحفاظ على التراث


تعتبر المرأة اليمنية عنصرًا مهمًا داخل المجتمع، ويجب أن تشارك في عملية الحفاظ على التراث المعماري والثقافي اليمني، بما في ذلك حماية الحرف اليدوية التقليدية من الاندثار.

يقول المهندس صالح عطيف في حديثه لـ”شواهد/نسوان فويس” إنه من الضروري الإهتمام بدور المرأة الحرفية في تنمية المجتمع كجزء أساسي في عملية التنمية الشاملة.
ويشير عطيف إلى أن المرأة تمثل نصف المجتمع، وأن وضعها الاجتماعي، سواء داخل الأسرة أو خارجها، اكتسب أهمية كبرى، حيث تعاطت نشاطات حرفية مكنتها من أن تصبح عنصرًا فعالًا ومنتجًا لا يُستهان به للنهوض بقطاع الحرف التقليدية. هذا الدور البارز الذي تقوم به المرأة يسهم في المحافظة على التراث وصونه، مما يعزز مكانتها كعضو مؤثر في مجالات التنمية باختلاف أنواعها.
ومن جهتها، تقول الباحثة نجلاء الحكيم إن للمرأة دورًا كبيرًا في عملية صون وحماية الحرف اليدوية التقليدية واستدامتها ونقلها بين الأجيال،فإذا كانت المرأة صاحبة مهارة حرفية، فإنها تقوم بتعليم أبنائها وبناتها، ويجب السعي لنشر تلك الحرف في أوساط النساء لأنها عنصر مهم في حماية التراث.
وتوضح أن حرفة صناعة القمريات ليست حكرًا على الرجال، فالمرأة موجودة في حرفة صناعة القمريات بجانب الرجل، لكنهن مغمورات داخل المجتمع. حيث إن العديد من الحرفيين في صناعة القمريات، خصوصًا من لديهم معاملهم الخاصة، كانت نساء عائلاتهم يعملن معهم في صناعة القمريات.
وتشير الحكيم إلى أن تواجد المرأة في حرفة صناعة القمريات يؤدي إلى اكتفاء ذاتي للمرأة نفسها، سواءً في صناعة القمريات داخل بيتها أو كمصدر رزق لها، حيث توفر لها فرصًا متعددة للعمل، ومنها صناعة القمريات، النحت، الزخرفة، التحف والهدايا، وغيرها من المهن التي تنبثق من حرفة القمريات.
من جانبه، يقول المهندس خالد وهاس، مشرف ترميم بمكتب الأشغال، إن المرأة تعتبر عنصرًا مهمًا في حماية حرفة صناعة القمريات من الاندثار. كون هذه المهنة لا تحتاج إلى جهد كبير بقدر ما تحتاج إلى جهد وحس فني أكبر، فالمرأة تستطيع القيام بهذه المهنة والحفاظ عليها وتطويرها من خلال الفنيات التي تمتلكها.
وتؤكد إلهام على أن المرأة اليمنية عندما تعمل في حرفة صناعة القمريات، تساهم بشكل كبير في حماية هذه الحرفة من الاندثار، وقدرتها على الخروج بأفكار جديدة في صناعة القمريات واستخدامها في العمارة ونمط الحياة، كون المرأة أكثر احتكاكًا بالمنزل وما هي احتياجاته، وهي قادرة على تحديد أين يجب أن تكون اللمسات الفنية للقمريات داخل المنزل أكثر من الرجال.

دعم تواجد المرأة اليمنية في حرفة صناعة القمريات


تقول نجلاء الحكيم إن التدريبات التي أقيمت جاءت لتلبية احتياجات خاصة بعملية الترميم داخل صنعاء القديمة من خلال إشراك المتدربات في عملية ترميم البيوت، والتي بدأت في عام 2020م، بمنحة من منظمة اليونسكو والإتحاد الأوروبي ضمن مشروع “النقد مقابل العمل”.
وفي حديثه، يقول خالد وهاس إن عملية التدريب لصناعة القمريات التي نظمها مكتب الأشغال في عام 2024، جاءت مكملة لتدريب خاص نُفّذ من قبل الصندوق الاجتماعي للتنمية في عام 2021م، حيث تم الاستعانة بالفريق الذي سبق أن تم تدريبه لغرضين: الأول استكمال أعمال القمريات في البيوت التي يقوم المشروع بترميمها من قبل هذا الفريق، والثاني استغلال هذه الأعمال والفريق المدرَّب لتدريب فريق جديد من النساء.
المرأة اليمنية وحرفة صناعة القمريات


تقول إلهام إن أكبر صعوبة تواجه أي حرفة هي عملية التمويل، التي من خلالها يستطيع الفرد شراء الأدوات وتأمين مكان للعمل فيه، يليها الحاجة إلى شخص خبير متخصص لعملية التدريب ونقل المهارات والخبرات للأجيال التالية.
وتؤكد إلهام أن مستقبل صناعة حرفة القمريات واعد إذا تحققت بعض الشروط الخاصة بتطويرها، سواء بالعمل على النمط القديم والتصاميم الأساسية للقمريات لما تتميز به من جمال ورُقيّ، أو من خلال تطوير هذه الحرفة بما يتناسب مع وجودها في العالم الإسلامي.
وتختم إلهام بقولها: “إن المرأة اليمنية، والمرأة بشكل عام، تربت على أنه لا يوجد عمل محرم أو ممنوع عليها القيام به، بل إن حياتنا تتطلب عمل الرجل والمرأة معًا، وهذا هو واقعنا. ولكن يختلف عمل المرأة بحسب احتياجاتها، وإذا كان هناك صعوبات تواجه المرأة في العمل، فإن هناك طرقًا لمعالجة وتحسين بيئة العمل بما يناسب المرأة. أنا تربيت على أن المرأة تقوم بأي عمل طالما أن الحياة تطلبت مني ذلك، بحيث أكون مكتفية ذاتيًا”.

تم إنتاج هذه المادة بالشراكة مع منصة شواهد.

 

مقالات اخرى