خديجة خالد
بينما كنتُ أنتظر دوري عند طبيبة النساء لقراءة الفحوصات، كانت الطبيبة تُجري فحصًا بالجهاز لامرأة قبلي.
وفجأة علت نبرتها المفعمة بالبشرى:
“مبروك يا رضية، أنتِ حامل في الشهر الثالث، وعندك توأم!”
تعالت الزغاريد من مرافِقاتها، لكن “رضية” بقيت صامتة، وملامح وجهها خالية من أي بريق.
عينان غارقتان في حزنٍ ثقيلٍ، كأن الفرح تأخر أكثر مما يجب.
استغربتُ برودها، فبادرت مرافِقتها لتشرح لي:
“رضية متزوجة من أربع عشرة سنة، ما كانت تحمل، وزوجها تزوج عليها العام الماضي.”
فهمتُ حينها أن الخبر الذي يُسعد غيرها، جاء إليها متأخراً حدّ الألم.
خرجتُ من المستشفى إلى الحديقة المجاورة، كان فيها مهرجان للأطفال، وصوت المذيع يملأ المكان:
“الفائز بجائزة الدراجة الهوائية هو: صالح!”
صعد “صالح” إلى المنصة، شاب في الثلاثين من عمره، تسلّم دراجة صغيرة لا تناسب سنّه.
لكنه تمسك بها كما لو كانت كنزًا.
اقتربتُ منه وسألته بابتسامة:
– “أكيد سعيد بالجائزة؟”
أجاب بابتسامة باهتة وعينين دامعتين:
“كانت أمنيتي وأنا أدرس في المتوسط… اللعنة! كيف جت اليوم بعد ما نسيتها؟”
ضحك قليلًا، لكن صوته كان يتهدج بالوجع، فعرفت أن بعض الأمنيات تموت واقفة، حتى إذا عادت للحياة لا نجد فيها أنفسنا.
بعد العصر، جلستُ في مقهى قريب.
هناك، لفت انتباهي رجل أنيق يحمل طفلًا، تقابله امرأة دخلت بخطوات مترددة.
اقتربتُ قليلاً من طاولتهما، فسمعتها تهمس له بصوت مبحوح:
“انتظرتك هنا قبل خمسة عشر عامًا، ولم تأتِ. ثم وصلتني رسالة من شيماء تقول إنك تزوجت ابنة مسؤول في الجيش.”
تنهد الرجل وقال بأسى:
“كنتُ مجبراً… والدي عقد لي دون علمي. تلك لعنة القانون والعائلة.”
صمتتْ لحظة، ثم قالت بهدوء موجع:
“فات الأوان… تغيرت الأمنيات، ولم يبقَ لي سوى أن أربي طفلتي وأعوّضها عن غياب أبيها.”
نظرتُ إلى طفلتهما الصغيرة، كانت ترسم على الورق قلباً مكسوراً نصفين.
ابتسمتُ بمرارة… فحتى الأطفال يلتقطون ما لا يُقال.
في الصباح اليوم التالي ، ركبتُ الحافلة إلى الجامعة لحضور مناقشة رسالة ماجستير لصديقة ، وجلست بجانبي امرأة خمسينية تمسك بحقيبة قديمة، تداعب أطرافها كأنها تحتضن عمراً مضى.
سألتها بخفة:
– “مسافرة؟”
ابتسمت وقالت:
“كنتُ، منذ ثلاثين سنة. هذه الحقيبة رافقتني وأنا أستعد للسفر للدراسة في الجامعة . لكن أمي مرضت قبل موعد الرحلة بيومين… وتركت كل شيء.”
ثم تابعت وهي تنظر إلى الأفق البعيد:
“المنحة الدراسية راحت، وأمي راحت بعدها بخمس سنوات. واليوم قررت أزور نفس الجامعة ، بس كسائحة وليس طالبة.”
ضحكت قليلًا، لكن الدموع كانت تلمع في عينيها كذكرى لم تُنسَ.
في المساء مررتُ بسوقٍ شعبي، فلفتت انتباهي امرأة مسنة تصلح ماكينة خياطة قديمة.
سألتها إن كانت لا تزال تعمل عليها رغم صدأها، فأجابت بفخر:
“هذي الماكينة جابت لي أكل أولادي لما مات أبوهم. كنتُ أحلم أفتح محل خياطة باسمي، لكن ما تمّ.”
ثم أمسكت بإبرة صغيرة وقالت مبتسمة:
“بس ما زلت أخيط للحياة خيوطها… حتى لو انقطعت كل الأحلام.”
كل الوجوه التي مرّت بي كانت تحمل ملامح “أحلام مؤجلة”،
أحلام لم تمت، لكنها لم تعد كما كانت،
ربما لأن الوقت لا يُعيد ما أخّره الحلم،
ولا يعوّض القلب عن وجع الانتظار.